في تراثنا الإسلامي تصافح عيناك كثيراً مقولات تمدح الصمت وتحث عليه، كما تحبذ الإقلال من الكلام بوجه عام، وتستثير الإعجاب بأولئك القادرين على التعبير بأوجز العبارات عن أعمق المعاني وأدق الأفكار حتى يحصر الكثيرون من علماء البلاغة العربية معناها وفحواها في الإيجاز فيقال: «البلاغة الإيجاز»، ويقال: «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ»، ومن مأثور الحديث: «ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى»، وأن الحكمة في الصمت؛ «الصمت حكم وقليل فاعله»، والصمت مما يعين الحكيم على التأمل واتساع الرؤية ومن ثم ينطق بالحكمة: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».
ولعمر الحق إن للصمت مآثر لا تنكر، وللثرثرة عثرات لا تجهل، لكن الصمت بظني لا يُمدح على إطلاقه، فهناك صمت الشياطين الخرس المذموم دوماً، وهو صمت القادرين على مواجهة الظلم ورد البغي وصد العدوان دون أن يحرك ذلك القادر ساكناً في ذلك، حيث يُؤثر البعض الصمت أمام بريق السيف الظالم خوفاً على حياة فانية أو متاع زائل أو طمعاً فيهما، وهو صمت سلبي جبان، فلا يستحق حمداً ولا شكوراً، فكم ضاعت به من حقوق وأرواح! وبخاصة إذا آثره من يظن لقوله أثر ما لدى من بيده أزِمة الأمور، ويمكنني أن أزعم أن واحداً من أسباب تخلف أمتنا وتقهقرها يكمن في هذا الخُلق الذميم، خُلق الصمت غير المنتج الذي يلحق صاحبه بالعي الذي لا يحسن الكلام أو لا يستطيعه أصلاً.
أما الصمت المثمر فهو ذلك الصمت الذي يصنع الحكماء، الصمت الذي يقترن بالتأمل والسياحة بالفكر في ملكوت الله ليزداد صاحبه بلحظات صمته إيماناً، ويغترف من بحار الحكمة، فتكتسب نفسه بهاء الحكمة وهيبتها، فإن نطق ثمة نطق درراً، وإن اقتضى الموقف وقفة رجال كان على الظن به من الرجال.
إن الصمت مع الاستغراق في التأمل الروحي من سمات الشخصيات الفذة الراقية، ولأمر ما كان من إعداد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل بعثته الخلوة في غار حراء الليالي ذوات العدد يتعبد لله مع صمته وسياحته الروحية وتأمله الواعي في ملكوت الله، وما خلق الله فيه من آيات عظمته الشاخصة، ومن هنا كانت السُّنة النبوية الالتجاء إلى الخلوة أحياناً، واعتزال الناس زمناً بنية الاعتكاف في المسجد ليكون له من هذا الصمت المثمر نصيب.
لقد ارتقى ديننا الإسلامي القويم بهذه العادة الإنسانية الراقية –أي الصمت مع التأمل أو التفكر الواعي- ليكون إحدى العبادات التي نتقرب بها إلى الله تعالى على هذا النحو، وبتلك الروح العملية المنتجة.
إن الصمت مع التفكر الواعي يترك آثاراً بعيدة المدى في نفس المؤمن وقلبه إذ ينقطع عن تيار الحياة اللاهية الملهية ليطلق للروح العنان لتسرى مع تيارات الخلود اللانهائية ليعود لها من الصفاء والنقاء ما يجعلها أكثر قدرة على مواجهة لأواء هذه الحياة وصراعاتها، ومن ثم تزداد بها طاقات التأثير في تيار الحياة ونفوس الأحياء فيكون لها من الآثار ما لا ينمحي أثره.
ولا شك أن الصمت مع التفكر لا يكاد يقطف ثماره المرجوة الأحلى إلا من يستحق، وهيأ لذلك عبر المجاهدة المجهدة، والسعي الدؤوب من أصحاب النفوس العالية، والأرواح الأشد ارتباطاً بروح القدس من حيث تتلقى قطوف الحكمة الملهمة التي تصنع الحياة، وترك آثاراً في مسيرتها.
ومن هاهنا فقط يصبح الصمت مع سكونه المتفكر حركة منتجة مبدعة لا سلبية ضائعة مضيعة.