تعايش الساحة الفكرية العربية منذ قرنين من الزمان صراعاً فكرياً جدلياً بين فريقي الإسلاميين والعلمانيين حول حقيقة النظام السياسي في الإسلام، إذ يؤكد العلمانيون خلو النصوص الإسلامية من تفاصيل تنظيم الحياة السياسية ودقائقها، بينما ينافح مفكرو التيار الإسلامي بنصوص متعددة مستقاة من الوحي القرآني والهدي النبوي تنطوي على توجيهات إسلامية لا تقبل التأويل بشأن كيفية إدارة شؤون الدولة المسلمة بالشكل الأمثل، وهو ما يؤكد وجود إسهام إسلامي حقيقي في الشأن السياسي والاجتماعي.
ورغم الخلاف بشأن مدى عمق واتساع ذلك الإسهام الإسلامي بين قائل بانحصار ذلك الإسهام في مجموعة من المبادئ العامة القابلة للتأويل والاجتهاد بحسب كل زمان ومكان، وآخر يؤكد بتوافر نظام سياسي تفصيلي كامل وشامل لكافة جوانب النظام السياسي، فإن كلا الرأيين يؤكد وجود أحد أدنى من التوجيهات الإسلامية في الشأن السياسي التي يجب أخذها في الاعتبار والبناء عليها إذا ما ابتغى المسلمون تحقيق نهضة حقيقية نابعة من ذواتهم بعيداً عن الوصفات الخارجية الجاهزة والمستوردة التي لا تراعي خصوصية ولا تحل إشكالات حقيقية ولا تضع في الاعتبار التمايزات الاجتماعية والثقافية.
الرشد والرشادة في القرآن الكريم
أشار الهدي القرآني إلى مفهوم الرشد في عدد من المواضع المتنوعة على رأسها الإشارة إلى القرآن نفسه باعتباره هادياً إلى الرشد كما في سورة «الجن»: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً) (الجن: 2)، وهي إشارة مهمة بأن سبيل الرشد يبدأ ويمر وينتهي بالقرآن الكريم والاستمساك بأوامره وتعاليمه كمنهج حياتي في سائر جوانب الحياة.
وقد ورد مفهوم الرشد في المنظور القرآني مرادفاً للصواب والهداية والإيمان، ولا أدل على أهمية مفهوم الرشد إسلامياً من استخدامه كوصف للمرحلة المُثلى من التاريخ الإسلامي التي شهدت حكم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسميت الخلافة «الراشدة» نظراً لما انطوت عليه من جانبين مهمين هما العقلانية والإيمان، ليصبح الرشد منذ ذلك الحين معبراً أساسياً عن نظام الحكم الإسلامي الأمثل، ومؤكداً مركزية الرشد في ذلك النظام كمرادف لانتهاج طريق الصواب المتسلح بالإيمان والتوحيد.
وتتجه أغلب الدراسات التي تناولت الحكم الإسلامي نحو سورتي «المائدة» و«النساء» بشكل خاص باعتبارهما أهم دليلين على النظام السياسي الإسلامي وعلى رفض الإسلام لمبدأ العلمانية القائل بالفصل بين الدين والدولة، عبر توجيه القرآن للمسلمين لكيفية تنظيم شؤونهم الدنيوية في شقيها السياسي والاجتماعي بمبادئ كلية حاكمة وملزمة.
وتتمثل الركيزة الأولى التي ينطلق منها النموذج السياسي الإسلامي الرشيد طبقاً للوحي القرآني في مبدأ «الحكم بما أنزل الله» عبر الالتزام بما ورد في القرآن والسُّنة من أحكام وأوامر وتوجيهات، وهو المبدأ الذي رسخته بشكل رئيس سورة «المائدة» حين أشارت إلى التوراة وتجاهل اليهود لأحكامها، ليأتي التحذير القرآني للمسلمين عبر نهيهم عن الوقوف في الخطأ نفسه في مواضع متتالية: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47)، (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) (المائدة: 48)، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
المبادئ الرئيسة للحكم الإسلامي الرشيد
وبعد ترسيخ مبدأ الحكم بما أنزل الله والالتزام بأوامر ونواهي الشرع، انتقل القرآن في مواضع عدة لإرساء ملامح الحكم الرشيد في المنظور الإسلامي، التي تقوم على عدد من الأصول الثابتة التي لا يمكن أن يخلو منها أي حكم إسلامي يبتغي إقامة الشرع والنهوض بالمسلمين، وحوت سورة «النساء» عدداً كبيراً من تلك المبادئ في الآية: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء)، وانطلاقاً من تلك الآية وغيرها من آيات القرآن التي تناولت مبادئ الحكم والإدارة، اتفق مفكرو السياسة الشرعية على المبادئ الرئيسة للحكم الإسلامي الرشيد كالتالي:
– العدل: وقصد به الهدي القرآني مضاد الجور والظلم، وإقامة الحق بين الناس دونما اعتبار لنسبهم أو ثروتهم أو مكانتهم، عبر رد الحقوق لأصحابها بالاقتصاص للضعيف من القوي وللفقير من الغني.
– المساواة: تتكامل المساواة في الهدي القرآني مع العدل، فإقامة العدل تتطلب ابتداءً اعترافاً بحقوق متساوية لكافة أبناء المجتمع دونما تمييز على أساس اللون أو الأصل أو الثروة، وهو المبدأ الذي رسخه الإسلام في كافة مناحي حياة الفرد انطلاقاً من الهدي القرآني: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).
– الطاعة: رغم خلافيته الكبيرة بين علماء ومفكري المسلمين، فإن مبدأ الطاعة –لله والرسول أولاً– قد شغل مكانة محورية في الفكر السياسي الإسلامي باعتباره أهم المبادئ التي ترسخ استقرار الدولة الإسلامية عبر الحض على طاعة الحُكام، وبينما قيده بعض فقهاء السياسة الشرعية بطاعة الولاة حال التزامهم بطاعة الله ورسوله، فإن آخرين قد أطلقوا الطاعة للحكام درءاً للفتنة التي قد تحدث حال الخروج على الحاكم وما يستتبعها من تزعزع أواصر المجتمع والدولة.
– الشورى: في مقابل الطاعة للحاكم، فقد منح القرآن الكريم مكانة خاصة لمبدأ الشورى –في سورة كاملة وردت باسم «الشورى»– للتأكيد على رفض الإسلام للاستئثار بالقرارات الفردية التي قد تكون أكثر عُرضة للوقوع في الزلل من تلك القرارات التي تحظى باستشارة ذوي الخبرة والاختصاص.
– أداء الأمانة: وجه القرآن الكريم خطاباً للمسلمين عامة ولولاة الأمور خاصة آمراً إياهم بأداء الأمانات إلى أهلها، ويختص مبدأ أداء الأمانة بمعنى حفظ الأعراض والأموال والأنفس، وصون حقوق الرعية دون تبديد أو إسراف أو إجحاف، وهو مفهوم متقدم جاء به الإسلام مبكراً عن كثير من النظريات السياسية الحديثة، ومن ثم تجلى مبكراً في السياسة الشرعية فكرة السلطة كأمانة مؤقتة في يد الحاكم يديرها كوكيل عن الأمة وأمين عليها وليس مالكاً لها.
– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الحسبة): وأخيراً اختص الإسلام الدولة الرشيدة بخاصية أخلاقية تتولى من خلالها وظيفة أخروية مهمة تتمثل في إرشاد مواطنيها إلى الأخلاق والخير والحق وتزجرهم عن التمادي في الغي والضلال والفسق والفجور، وهو مبدأ إسلامي مهم استهدف صيانة الدولة من المفاسد عبر نشر القيم والأخلاق.
إن الحكم الإسلامي الرشيد طبقاً للهدى القرآني ينطلق بالأساس من التمسك بالحكم بما أنزله الله من أوامر ونواهٍ كركيزة أساسية لأي مشروع نهضة إسلامي، بالإضافة إلى مجموعة من المبادئ الحاكمة التي يجدر الاهتداء بها لصياغة الشكل الأمثل بحسب كل مجتمع وكل زمان عبر الاجتهاد في تنزيل تلك المبادئ على الواقع انطلاقاً من منهج إسلامي كُلي حاكم استهدف مصلحة المجتمع وتماسكه وسعادة أفراده في دنياهم وأخراهم.