يرفع العالم بدوله ومؤسساته الدولية والمحلية شعار التنمية بمفاهيمها المتعددة سواء كانت تنمية اقتصادية، أو شاملة، أو بشرية، أو مستدامة، وما زالت دولنا العربية تتكلم عن عجلة التنمية التي أكلها الصدأ، ورحلت أجيال من أجل تحقيقها، ولكن ما من نتاج غير ثمرة التخلف والاعتماد على الغير في تلبية الحاجات.
وفي لقاء كتبه التاريخ بأحرف من نور بين الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه، ورستم قائد الفرس إبان موقعة «القادسية»، سأله فيه رستم: ما جاء بكم؟ فقال: «إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».
ففي إجابة ربعي ما قلَّ ودلَّ وكفى من المنظور الاقتصادي، حيث تطرق إلى مبادئ ثلاثة لا قوام لاقتصاد إلا بها، هي: الحرية والتنمية والعدل، ولا تنمية إلا بجناحين، هما: الحرية والعدل، والعدل هو خير ضابط للحرية، لأن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة، كما أسس لذلك النظام الرأسمالي، كما أن كبت حريات الناس واستعبادهم مفسدة مهلكة.
إن النظام الاقتصادي الإسلامي ينظر لجناح الحرية الحامل للتنمية والمحفز لها وللابتكار والإبداع على أنه فريضة إسلامية، لا يمكن لاقتصاد أن ينمو بدونها، فحرية الإنسان هي أساس أي تنمية، ولا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية بدون التنمية البشرية.
الحرية بالنظام الاقتصادي الإسلامي منضبطة بالعدل وحدود الاستخلاف ورقابة مزدوجة قوامها الفرد والدولة
ولكن الحرية في النظام الاقتصادي الإسلامي حرية منضبطة بالعدل، وحدود الاستخلاف، وما يخلفه ذاتية من رقابة مزدوجة قوامها الفرد والدولة، فالرقابة الذاتية لعالم الضمير في النفس الإنسانية المرتبطة بالحياة الأخروية تحرك السلوك الاقتصادي في دائرة الحلال وتجنبه مراتع الحرام، وتجعله معضاً بالنواجذ على القيم الأخلاقية من إخاء وإيثار ورفق وسماحة وعدل ورحمة ورأفة، ونبذ للاستغلال والأنانية والأثرة في واقع الحياة العملية.
كما أن الدور الاقتصادي الرقابي للدولة في ضبط الحرية الاقتصادية في الاقتصاد بضوابط الشريعة ومقاصدها يسهم في جلب المصالح ودرء المفاسد، وتحقيق التخصيص الأمثل للموارد.
وسطية الاقتصاد الإسلامي
وقد ظهرت بوضوح وسطية النظام الاقتصادي الإسلامي في تأسيسه للحرية الاقتصادية، حيث أعطى للإنسان مجالاً واسعاً يتحرك فيه باختياره، ليمارس نشاطه الاقتصادي، الذي يحقق به وظيفته على الأرض، وهي تحقيق العبودية لله تعالى، وإعمار الأرض، عابداً لله مستعيناً به؛ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5)، وهو بذلك لا يعرف للحرية الاقتصادية المطلقة أو شبه المطلقة التي هي مفسدة مطلقة سبيلاً كما هي الحال في النظام الرأسمالي.
.. وهي حرية رشيدة منضبطة لتحقيق الرغد الإنساني لا تعرف للغرور طريقاً ولا للعبث الدنيوي سبيلاً
كما يرفض المساواة الاقتصادية المطلقة التي يحلم بها الشيوعيون ومن أجلها استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وقيدوهم بقيد القهر، ومنحوهم لقيمات للعيش، وكأن إشباع البطن وامتلاء المعدة بالطعام الزهيد منتهى متطلبات الناس وسعادتهم، ولو كان الأمر كذلك لأصبح -وفق هذا المنطق المغلوط- السجناء أسعد الناس حظاً، بما توفره لهم إدارة السجن من طعام منتظم كل يوم، وإن كان الناس في الاشتراكية في سجن كبير، والحق أن الحرية الاقتصادية المنضبطة هي سر تلك السعادة بما توفره من إبداع وابتكار والتنافس المرغوب في التملك والعمل والإنتاج.
إن الحرية الاقتصادية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي حرية مسؤولة تقف عند حدود المجتمع، فمصلحة الفرد تحيط بها مصلحة الجماعة التي يتعامل معها، وسلوكه الاقتصادي يجب أن يكون موظفاً لخير نفسه وخير المجتمع من حوله، وبذلك يوفق النظام الاقتصادي الإسلامي بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويأبى أن تنقلب الحرية الاقتصادية إلى الإضرار بالناس وتحقيق المصلحة الأحادية الفردية، فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع قدمت مصلحة المجتمع مع تعويض الفرد عما لحقه من ضرر تحقيقاً للقاعدة الشرعية «يدفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى، فإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما»، كما أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
مسؤولية اجتماعية
إن النظام الاقتصادي الإسلامي ينظر للحرية الاقتصادية بأنها ذات مسؤولية اجتماعية، فشتان ما بينه وبين النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يقوم على الحرية المفترسة، فترْك الحرية الاقتصادية دون قيم أخلاقية وإيمانية في كل شيء تحت شعار «دعه يعمل دعه يمر» من حرية التملك، وحرية التعاقد، وحرية الإنتاج، وحرية تحديد الأسعار، وحرية التبادل، وحرية الاستهلاك، وحرية التصرف في الدخل والثروة جعل من الإنسان سلعة تباع بثمن مرة وبغير ثمن مرات، وأسس لأكل المال بالباطل الذي يفترس الضعيف وينمي الكبير ويقضي على تكافؤ الفرص من احتكار ومقامرة وغرر وربا وأزمات متتالية وغير ذلك.
الحرية الفردية مسؤولة تقف عند حدود المجتمع فمصلحة الفرد تحيط بها مصلحة الجماعة التي يتعامل معها
وشتان بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الاقتصادي الاشتراكي الذي هو في حد ذاته أزمة، بما جاهر به من الكفران بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وبما أرساه من احتكار الحزب ورجاله للثروة والسلطة وتوزيع الفقر على جموع الشعب، وبما أورثه من كبت لحرية الناس بالإرهاب والحديد والنار وحرمانهم من حقهم في عملهم تملكاً وربحاً؛ ما جعل صدرهم حرجاً ضيقاً كأنما يصعّد في السماء.
والنظام الاقتصادي الإسلامي بذلك يرسخ حقيقة واضحة أن الخلق والأمر لله وحده؛ (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف: 54)، بينما النظام الاقتصادي الرأسمالي جعل الخلق لله والأمر للبشر، في حين جعل النظام الاقتصادي الاشتراكي الخلق والأمر معاً للبشر.
إن الحرية الاقتصادية في النظام الاقتصادي الإسلامي حرية رشيدة منضبطة لتحقيق الرغد الإنساني، ومن ثم فهي لا تعرف للغرور الإنساني طريقاً، ولا للعبث الدنيوي سبيلاً، كما فعل قوم عاد من قبل؛ (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129} وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء).
كما أن قصة نبي الله شعيب عليه السلام تكشف عن منهج الله تعالى الذي يضبط الحرية الاقتصادية بالقيم الربانية، فقد دعا قومه إلى التوحيد، وقرن ذلك بالقسط في التعامل وعدم بخس الناس حقوقهم، فتعجبوا للضوابط العقدية والأخلاقية على تصرفاتهم وأموالهم التي يرون أن لهم فيها كافة الحرية والمشيئة؛ (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ {84} وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {85} بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ {86} قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود).