أسواق كثيرة ومتنوعة تزخر بها دنيانا فيها مشترون وبائعون، رابحون وخاسرون، صادقون ومدلسون، أمناء وغشاشون، تجار ومرابون، مزايدون ومدعون.
تتنوع السلع وتختلف أثمانها بين رخيصة وغالية، وتتنوع أصناف المشتريات وأذواق المشترين، وفي عديد الأماكن تعقد الصفقات وكل يوم تزداد المعرضات تنوعاً من احتياجات إلى كماليات، بل في أسواق الدنيا هناك من يتاجر بالقيم ويعرض مبادئه بثمن بخس.
وتأمل عميق في أحوال الناس يجعلنا نجزم أن الجميع يتاجر ويعقد صفقات على هذه الأرض ولكل تجارته وصفقاته، والناس في هذا ليسوا سواء، فمنهم من يقيم صفقاته بموازين الشرع ويزنها بقيمه الرفيعة، ومنهم من همه تكديس الأموال والحصول على الجاه والسلطان ولو غاص في الحرام.
ومع تنوع أصناف البائعين والمشترين وتعدد أنواع التجار، فإن هناك صفقة مميزة لها شأن عظيم وأهداف سامية ويا فوز من نالها وقدم ثمنها وحقق شروطها!
صفقة ذات جلال وجمال وهيبة وكمال، المشتري فيها رب جواد كريم، واسع عليم، والبائع فيها صفوة من عباده المؤمنين، اتخذوا الجهاد طريقهم والدفاع عن الدين سبيلهم، نظروا بعين البصيرة فآثروا الباقية على الفانية، واختاروا ونعم ما اختاروا! وقدموا ثمن الصفقة بكل رضا وقد قرت أعينهم بما قدموه.
الصفقة المميزة بنودها وثمنها ونتائجها نجدها في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
ولعلنا نقف وقفات تأملية مع هذه الآية الجليلة وما فيها من إضاءات مميزة في النقاط الموجزة التالية:
1- الداعي لهذه الصفقة المباركة هو الله تعالى الغني عن العالمين الذي أعطى وأغنى ومن وتفضل على عباده، وكفى بها تجارة رابحة لا خسارة فيها كيف لا والذي تولاها أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
2- الآية تبدأ بصيغة تأكيدية تفيدها «إن» والجملة الإسمية لتعطي معاني الاستقرار والاستمرار والتعظيم لهذه الصفقة المميزة.
3- الثمن الذي يقدمه من يريدون أن يعقدوا هذه الاتفاقية مع ربهم هو أموالهم وأنفسهم التي وهبها لهم، وهو ثمن كبير لا يستطيع أن يقدمه من خارت عزائمهم وجعلوا الدنيا مبلغ علمهم وأكبر همهم، لكنَّ أولي القلوب الواعية والهمم العالية والبصائر المشرقة يقاومون كل الإغراءات لينالوا رضا رب الأرض والسماوات وهم على يقين بأن ما عند الله خير وأبقى.
4- والجائزة الثمينة لهذه الصفقة المميزة تستحق التضحية وتستأهل البدل والعطاء، وسلعة الله غالية وعالية، سلعته جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
5- الزمان والمكان مفتوحان لعقد هذه الصفقة، يتغير الأشخاص وتتعدد البقاع وتختلف الأعصر لكن التجارة الرابحة مع الله سبحانه مستمرة، وباب القبول لمن يريد أن يقدم الثمن مفتوح، والمجاهدون في سبيله يجودون بكل ما يملكون، يدفعون الثمن وينالون الجوائز ويقدمون القدوة الرائدة جيلاً بعد جيل لكل مسلم يأبى الضيم ويدافع عن الحق ولا يرضى بالذل ويأبى إلا أن يسير في درب الجهاد وينال وسام الشهادة والريادة، ولنتلو متدبرين: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).
6- والصفقة مضمونة بوعد الله تعالى، ومن أصدق من الله قيلاً، وهو وعد موثق في كتبه مكفول من رسله عليهم السلام، ولنتلُ ونحن على يقين بسمو وعلو هذه الصفقة العظيمة: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).
7- وبعد هذا الوعد الرباني لن يأتي إلا الخير، ولن تكون إلا البشرى، ولن يرى الذين قدموا الثمن وعقدوا الصفقة مع مولاهم إلا الفوز العظيم، لذا لا غرو أن تكون خاتمة الآية: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
8- وبعد هذه الفسحة التأملية في هذه الآية الكريمة ومع تجليات هذه الصفة الرائعة، لا بد أن نشير إلى أن هذه الآية وردت في سورة «التوبة» تلك السورة الكريمة الفاضحة للنفاق وأهله التي بينت بجلاء صفاتهم وسوء أخلاقهم وخطورة سلوكهم الذي يقوم على المكر والخداع، ويعكس جبنهم وخستهم وحبهم للدنيا، حتى إنهم يبيعون آخرتهم بمتاع من الدنيا قليل، بل بعضهم قد يبيع آخرته بدنيا غيره ولا ينال هو غير الخسران المبين.
9- وفي هذه السورة الفاضحة الكاشفة للمنافقين وسوء أعمالهم ومآلهم، نجد فيها أيضاً أوصافاً للمؤمنين الصادقين أهل الجهاد والعطاء وأولي التقوى والإحسان.
10- وصفات كل فريق واضحة جلية، وشتان بين أهل النفاق والشقاق، وأهل الصدق والجهاد، وكل منا له الخيار بين أن يكون مع أهل الجهاد أصحاب الصفقة المميزة والربح الوفير، أو ينضم لأهل النفاق أصحاب القلوب المريضة والتجارة الخاسرة.