السلام عليكم د. يحيى، لقد نشأت في كيان يمكن أن يكون أي شيء إلا أن يكون أسرة، شخص يوفر ما فوق الحلم للأفراد، ما لم يكن مريضاً فهو يتابع شركاته خارج المنزل، أُم قامت بإدارة المنزل به 7 أولاد بصرامة، بل قسوة في محاولة منها لضبط سلوكهم وتعويض غياب الأب، فهي لا تنام إلا سويعات، ولا تجد وقتاً للذهاب للطبيب لمتابعة صحتها المتدهورة، فيأتي إليها مهما كانت التكلفة، نظام يومي ومتابعة، بل مراقبة حثيثة لكل هفوة، ومع الدراسة في أرقى المدارس وتوفير فريق من المدرسين الخصوصيين كانت نتائج الشهادات مبهرة.
لا تسألني عن الأخلاق، وانغلاق كل واحد من الأولاد في غرفته مع عالمه الافتراضي! ورغم أن المديرة -أقصد والدتي- تغلق الإنترنت في العاشرة، فإن كلاً منا له الإنترنت الخاص به يتجول حيث شاء شيطانه!
علاقتنا بما يفترض أنه والدنا «لا علاقة»، أما والدتنا فالرعب منها هو الدافع للعمل، أثَّر ذلك على علاقتنا كإخوة وأخوات، من النوادر اجتماعنا؛ لأن لكل منا برنامجه سواء الرياضي أو جدول المدرسين؛ لذا فعلاقتنا سطحية، «ولا نعرف بعض»! فليس موجود في الجدول جلسة اجتماع عائلية! وكما تعلم كم هي مسلية تطبيقات التواصل الاجتماعي ومن تعرفهم من خلالها أكثر بريقاً وتشويقاً.
في الصف الحادي عشر درَّس لنا مادة الفيزياء مدرس يتميز بجانب كفاءته في عرض المادة بأسلوب شيق وطرائفه التي لا تنتهي وبطريقته التي تميل إلى المرح وعدم التكلف، إنه كان وسيماً ويبالغ في أناقته، كانت كل البنات ينتظرن حصته بكل لهفة، وتكثر التعليقات حول تخيلات الطالبات، إنه مهتم بفلانة أو أن نظراته ذات مغزى، وكم كنت حريصة على أن أتميز في الفيزياء حتى يشيد بي ويثني عليَّ.
كنت لا أنام من ليلي إلا قليلاً عندما يتردد في أذني إشادته، خاصة عندما قال لي: «أنا أحب طريقة التفكير هذه».
في الصف الثاني عشر قررت أختص به وحدي! اتصلت به أمي، ولكنه اعتذر لضيق وقته، فكلمته أنا من غير ما تعلم أمي حتى ضعف ووافق! وأنا هائمة من الفرح.
لأول مرة أشعر.. لا أعلم؟! كان يدرسني في غرفة المكتب، وكنت قد طلبت من الخادمة إعداد الضيافة قبل حضوره ولا تطرق الباب!
أسفر العام عن قصة حب وتجاوزات، وطلبت منه الزواج رغم علمي أنه في منتصف الخمسينيات وله أولاد بالجامعة، فاعتذر، طلبت منه لقاء الوداع، فاعتذر ثم ضعف ومكنته من نفسي فوقع، هددته فوافق على زواجنا.
تركت قصر الشقاء والحرمان، وعلمت أن أبي قد أصيب بالشلل، وأمي في غرفتها لا تغادرها.. لم أهتم! أقمت في شقة صغيرة على أطراف مدينتنا، وكان في البداية معظم وقته معي، ثم قلل حتى أصبحت معظم الوقت بمفردي! ورأيت زوجي بدون بدلته الأنيقة وكلامه المنمق! واستيقظت أصرخ في الذهول، من هذا؟!
أيقنت أنني لم أحبه، ولكنني كنت أنتقم من إهمال أبي وقسوة أمي، لا.. لن أدفن عمري مع هذا الذي خدعني وجذبني بعذوبية حديثه، ولكن إلى أين أذهب؟
التحليل
إن أشرس الحيوانات توفر لصغارها الدعم النفسي من الحب والحنان واللعب بما يوفر لها الاطمئنان فتنشأ قوية النفس والبدن، فرضٌ على الوالدين أن يوفرا لأولادهما المحضن التربوي الصحي، وألا يحملا هم الإعالة المادية، فقد تكفل الله بها؛ (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) (الإسراء: 31)، أما الرعاية النفسية فمسؤولية الوالدين.
إن الأولاد محتاجون للدعم النفسي بالحب من خلال الكلمات الرقيقة والقبلات والأحضان وكل ما يشعرهم بحبنا لهم، أياً كانت جهودنا لتقويم سلوكياتهم الخاطئة، حتى لا يكونوا عرضة لأي أهواء تمدهم بما قصرنا فيه، كذلك دورنا في بناء ودعم ثقتهم بأنفسهم وتقديرنا واحترامنا لهم من خلال مصاحبتهم وتعبيرهم عن أنفسهم ومناقشة آرائهم واتباع المناسب منها، وتدريبهم على اتخاذهم لقراراتهم بطريقة رشيدة.
هذه الفتاة، رغم رغد العيش الذي وفره والدها لها، فإن الثمن كان فقدان الأب، فحاولت الأم تعويض ذلك بالقسوة الصارمة، وهناك فرق بين الحزم والقسوة، فالحزم ضروري، ولكن القسوة تدمر الأولاد وتنفرهم، كما أن هناك فرقاً بين الحب والميوعة، فالحب ضرورة تربوية يولد الاعتزاز بالانتماء، ويفجر الطاقات الكامنة نحو الغايات التي يساعد الوالدان أولادهما على صياغتها وتحقيقها، فيكتسب الأبناء ثقتهم بذواتهم ويَسمون فوق الأهواء الطائشة.
لذا، فمن مقومات التربية الحب مع الحزم، الحب الإيجابي الذي قد يمنع من تلبية بعض طلبات الأولاد مع القدرة على تلبيتها، وذلك لتعودهم على الصبر والبذل واكتساب المهارات، عادة ما يوكل الوالدان التربية العلمية لمعلمين أكفاء، والتربية الدينية لشيخ مخلص، والتربية البدنية لمتخصصين، ولكن لا يمكن أن يوكلا أحداً للتربية الوجدانية فيشبع أولادهما حباً وثقة نيابة عنهما.
كما نؤكد أهمية وجود مساحة للراحة النفسية للأولاد من خلال تخصيص لقاء مفتوح على الأقل مرة أسبوعياً، ليس للأوامر أو النقد والتوجيه، بل للمرح ومناقشة الأمور العائلية، وأن يعبر الأولاد عن أنفسهم بحرية، كما أيضاً يجب أن تكون هناك مساحة خاصة لكل ولد بمفرده، يشعر فيها بقيمته وخصوصيته، يسر فيها الولد لوالديه ما يريد.
إن التدريس أمانة عظيمة يتوقف على نجاحها مستقبل الأمة، لذا يجب التقييم المستمر لمن اضطلع بهذه الأمانة الجليلة، ولا أقصد فقط الكفاءة المهنية، بل الكفاءة الدينية والأخلاقية والقيمية، إن هذا المدرس قد خان الأمانة وتلاعب بمشاعر المراهقات، ثم ضعف لإغراءات فتاة في سن ابنته، بل إنني أرى أنه قد دفعها لتنامي أحلامها حتى وقعت في شراكه، كم حذر علماء النفس من علاقة المدرس بطلابه، والطبيب بمرضاه -خاصة عند اختلاف الجنس- وإنه قد تتحول إلى علاقة التبعية والثقة المطلقة والتعلق الوجداني والعاطفي.. وإنه يجب على المدرس أو الطبيب الانسحاب التدريجي وإحلال آخر إذا ما شعر بتعلق المريض أو الطالب به.
كذلك من مسؤولية الوالدين اختيار المدرس أو الطبيب من نفس الجنس، والحرص على عدم الخلوة، والمتابعة المستمرة.
إن فقدان الإحساس بالأمان في حضن الأب بكل ما يعنيه من دفء الحنان والاستيعاب والأمان والمرجعية والثقة -رغم وجوده المادي- كما ضاعف من ذلك فقدان دور الأم بما تحمله معاني الأمومة الفياضة فقامت بدور المدير القاسي، أحدث ذلك فراغاً عاطفياً واضطراباً نفسياً لهذه الفتاة؛ لذا فمع غياب منظومة قيم تضبط السلوك، أضحت البنت سهلة الوقوع في براثن من فقد أمانة التدريس، فوجدت في مدرسها المراهق غايتها، فهو يعوّضها فقدانها للأب ويلبي رغبتها في الحب والاهتمام كمراهقة.
ولك يا ابنتي:
لا يمكن أن يبرر الإنسان خطأه بناء على أخطاء الآخرين، أياً كانت خطاياهم، يقول الله عز وجل: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء: 13)، (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء: 15)؛ لذا فعندما بلغت، فكلفك الله وهو العليم بخلقه؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، فقد أصبحت مسؤولة عن تصرفاتك، وعليك أن تتحملي نتائجها دنيا وآخرة.
إنك لم تنتقمي من والدك لإهماله لك وغيابه عنك، «لأنه فهم أن دوره توفير كل احتياجاتك المادية»، وهذا خطأ، كما إنك لم تنتقمي من أمك «لأنها أرادت أن تعوّض دور الأب الغائب، فقست عليك»، وهذا أيضاً خطأ، ولكنك انتقمت من نفسك وأشبعت رغبتك، لذا عليك:
– العودة إلى الله التواب الرحيم، فتوبي إلى الله واستغفري لذنبك.
– أسرعي بالعودة إلى بيتك، وابكي تحت قدمي والديك واسترحميهما، فأنا على يقين أنهما استوعبا الدرس، عسى الله أن يغفر لك.
– من المؤكد أنك أصبحت عبئاً على زوجك، ويتمنى الخلاص منك بعد أن أشبع غروره بأنه ما زال شاباً يلهب عاطفة مراهقة؛ لذا فأمر طلاقك سهل.
– عودي مرة أخرى لاستكمال دراستك، والله معك.