بفاصل شهر تقريبًا، ارتكب الاحتلال الصهيوني مجزرتين مروعتين في غزة، بقصف مدرستي الجاعوني، والتابعين، مما أسفر عن ارتقاء عدد كبير من الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال، فضلاً عن وقوع إصابات بالغة؛ وذلك في عدوان صهيوني غادر ليس غريبًا على الاحتلال، ويحمل العديد من الدلالات.
ففي السادس من يوليو الماضي، أغار الاحتلال على مدرسة الجاعوني الواقعة في مخيم النصيرات؛ مما أسفر عن استشهاد 16 فلسطينيًّا وإصابة 50 آخرين، وفي فجر العاشر من أغسطس الجاري، قصف الاحتلال مدرسة التابعين في حي الدرج، وهي المدرسة التي تؤوي آلاف النازحين، وفي طابقها الأول يقطن النساء، بينما خُصص الطابق الثاني للمصلين الذين قصفهم الاحتلال بعدما رفعوا أياديهم لتكبيرة الإحرام؛ مما تسبب بمذبحة راح ضحيتها 125 شهيدًا، و70 جريحًا حالتهم خطرة.
سياق العدوان على المدارس
لم يكن الاعتداء الصهيوني على مدرستي الجاعوني، والتابعين حدثًا عابراً أو أمراً وقع بالخطأ، بل جاء ضمن سلسلة غارات متعمدة وموجات قصف متتابعة على القطاع بكامله، طيلة الشهور العشرة منذ انطلاقة «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر الماضي.
وفي هذا الصدد، يكفي أن نشير إلى ما ذكرته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من أن نحو 70% من مدارسها في قطاع غزة استهدفتها «إسرائيل» منذ بدء الحرب، وأن أكثر من 95% من هذه المدارس استُخدمت ملاجئ حين استهدفتها القوات «الإسرائيلية».
وأوضحت الوكالة التابعة للأمم المتحدة، في منشور لها على منصة «إكس»، أن 539 شخصًا قُتلوا وهم يحتمون بمرافقها منذ بداية الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، على الرغم من أنها تقدم باستمرار إحداثيات هذه المقار للجيش «الإسرائيلي»، ودعت الوكالة إلى حماية دائمة لكل مرافق الأمم المتحدة، وقالت: إنه لا ينبغي استخدام هذه المنشآت أبدًا لأهداف عسكرية أو قتالية.
فهذه شهادة أممية تفضح عمدية الاحتلال في استهداف أماكن الإيواء، سواء أكانت مدارس تابعة لـ«الأونروا» أم غير ذلك؛ فالاحتلال لا يقيم وزنًا للهيئات الدولية، ولا يعنيه أن يتجنب الأماكن التابعة لها، من مراكز إيواء أو أماكن مخصصة للغذاء والدواء؛ بل هو يتعمد ذلك، بما ينسجم مع تاريخه في الاستعلاء على المنظمات الدولية السياسية والحقوقية؛ بعدما يحصل وباستمرار على الغطاء الأمريكي اللازم!
ادعاءات كاذبة
واللافت هنا، تكرار ادعاء الاحتلال بعد هاتين المجزرتين في مدرستي الجاعوني، والتابعين، بأنه استهدف مِن قصفهما مهاجمةَ عناصر للمقاومة استخدمت المدرسة كمقر قيادة لمسلحي حركة «حماس»، حسب زعمه، وهو ما لا يمكن قبوله من احتلال لن يتورع عن الكذب بينما هو يمارس القتل!
وقد نفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) زعم الاحتلال، وقالت: إن ادعاءات الجيش «الإسرائيلي» بوجود عناصر للمقاومة الفلسطينية في مدرسة الجاعوني «محض كذب وتضليل»، موضحةً أن الجيش «الإسرائيلي» يحاول من خلال ادعائه تمريرَ وتسويق جرائمه للرأي العام، وإخفاء أهدافه الواضحة التي يسعى لتنفيذها، بإبادة الشعب الفلسطيني وتدمير جميع مقومات الحياة في قطاع غزة.
وأضافت الحركة، في بيانها، أن مراكز إيواء النازحين ومدارس ومنشآت «الأونروا» تعرضت لعمليات استهداف وتدمير ممنهج، وارتقى داخلها مئات الشهداء من النازحين، من أطفال ونساء وشيوخ، وأن الاعتداءات المتكررة تستدعي موقفًا واضحًا من المجتمع الدولي، بإدانتها، والعمل على وقفها، ومحاسبة مرتكبيها من قادة الاحتلال على جرائمهم.
وفي وقت لاحق، صدرت تصريحات من الحركة بأنها وبقية فصائل المقاومة تحرص على عدم التواجد بين المدنيين، حتى لا يتخذ العدو من ذلك ذريعة لاستهداف الأطفال والنساء.
هيئات دولية: لا مبرر
وتأكيدًا لكذب ادعاءات الاحتلال، قالت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز: إنه لا يوجد مبرر لـ«إسرائيل» يسمح لها بقصف المدارس وقتل المدنيين، مؤكدة في تصريحات لقناة «الجزيرة مباشر»، أن النظام العالمي يسمح لـ«إسرائيل» بالإفلات من العقاب، وأن جرائم الإبادة الجماعية في غزة هي الأكثر وضوحًا في العالم.
وأشارت ألبانيز إلى أن الدول الغربية تضغط على المحكمة الجنائية الدولية لمنع محاسبة القادة «الإسرائيليين»، وأن «إسرائيل» دائمًا تقول: إن المدارس كان بها «إرهابيون»، لكنها لا تقدم أي دليل على ذلك.
كما كتبت ألبانيز، على حسابها عبر منصة «إكس»، بعد مجزرة مدرسة التابعين: إن «إسرائيل» تبيد الفلسطينيين بأسلحة أمريكية وأوروبية وسط عدم مبالاة من كافة الدول المتحضرة، واعتبرت أن قطاع غزة أكبر معسكر اعتقال وأكثرها خزيًا بالقرن الـ21، تبيد «إسرائيل» فيه الأحياء والمستشفيات والمدارس والمناطق الآمنة واحدة تلو أخرى.
من ناحيته، قال المستشار الإعلامي لـ«الأونروا» عدنان أبو حسنة: إن المدرسة المستهدفة في النصيرات من أكثر المدارس اكتظاظاً بالنازحين، مشيرًا إلى أنها تؤوي نحو 2000 نازح.
وكشف أبو حسنة، في تصريحات لقناة «الجزيرة» (6 يوليو)، أن «الأونروا» تزود جيش الاحتلال «الإسرائيلي» مرتين يوميًّا بإحداثيات المدارس التي تؤوي نازحين، مشددًا على أن لا شيء يبرر استهداف المدارس وقتل عشرات المدنيين.
وفي تصريحات لاحقة (14 يوليو)، قدّر أبو حسنة وقوع تدمير كلي أو جزئي بنحو 190 مدرسة ومركزًا للإيواء، نتيجة الضربات «الإسرائيلية» بمختلف أنحاء قطاع غزة، منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، مشيرًا إلى مقتل أكثر من 530 نازحًا في مراكز إيواء «الأونروا»، إضافة إلى 195 من موظفي الوكالة حتى الآن.
الضغط والانتقام
وفي هذا الصدد، لا يغيب عنا أن الاحتلال لا يحتاج مبررًا للاستمرار في سياسته التي ينتهجها منذ إنشاء كيانه الغاصب، وهي القتل والتدمير واستهداف المدنيين، لا سيما أن ذلك يمثل له هدفًا سهلاً بعدما عجز عن مواجهة المقاومة في الميدان، كما أن الاحتلال يريد بذلك الضغطَ على المقاومة، من خلال إيقاع الأذى بحاضنتها الشعبية.
بل إن هذا الأمر -القتل والتدمير، واستخدامهما كورقة ضغط- وصل إلى أن يكون ضمن تصريحات لا تخص الكيان وحده، وإنما صرح بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في تصريح مُلتوٍ لا يخفى على أحد؛ فقد ذكر في مؤتمره الصحفي الذي عقده في الكيان، الإثنين 19 أغسطس، أنه إذا كانت «حماس» تكترث لمعاناة الشعب الفلسطيني، والتخفيف من معاناته، فعليها الموافقة على الصفقة التي ترعاها أمريكا؛ بما يعني بالضرورة أن استهداف الشعب وإلحاق الأذى بالمدنيين سيتكرر حتى توافق المقاومة على الشروط المجحفة، وبما يعني أن هذا الاستهداف لم يكن بحاجة لتبرير من الاحتلال، وإنما هو سياسة ثابتة له، يمارسها للضغط على المقاومة، والانتقام من الحاضنة الشعبية، خاصة بعد فشل مشروع التهجير.
نعم وكما أشرنا، فمن يمارس القتل لن يتورع عن الكذب، الكذب حتى على الهيئات الدولية التي أصبح كثير منها أكثر إدراكًا لطبيعة هذا الكيان؛ وأن أكاذيبه التي يَسوقها بين يدي المجازر وعمليات الإبادة، لم تعد تنطلي على أحد.