عندما تذكر جنوب أفريقيا، قد يتبادر إلى ذهنك حدائق السفاري، الفصل العنصري، أو نيلسون مانديلا، ومع أن هذه الأمور تشكل جزءًا مهمًا من تاريخ البلاد، فإن تاريخ المسلمين في جنوب أفريقيا غالبًا ما يتم تجاهله، هكذا بدأ الشيخ الداعية الجنوب أفريقي رياض والز حديثه لـ«المجتمع».
وجنوب أفريقيا التي تتخذ من أقصى جنوب القارة السمراء متكئاً لها، احتلتها هولندا لفترة محدودة، واستعمرتها بريطانيا، ونالت استقلالها في 31 مايو 1910م، معلنة رسمياً عن قيام اتحاد جنوب أفريقيا، فيما حكمتها الأقلية البيضاء فسنّت وطبقت ما عرف بقوانين الفصل العنصري الذي دام 50 عاماً، وانتهى بدستور جديد وانتخابات فاز بها المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا عام 1994م.
وأرجع الشيخ رياض تاريخ المسلمين في جنوب أفريقيا إلى أواخر القرن الـ17، حين تم جلب المسلمين من الشرق الأقصى إلى منطقة الرأس كمعتقلين منفيين لمقاومتهم الاستعمار الهولندي، وقال: إن هؤلاء المسلمين لم يكونوا عاديين؛ فقد كانوا نبلاء وعلماء، ينحدر العديد منهم من سلالات ملكية.
والشيخ والز داعية وإمام مسجد السني في مدينة كيب تاون، ينحدر من أصول إنجليزية إسكتلندية، اعتنق الإسلام قبل 3 عقود، وبرع في مجال الدعوة، فهو أيضاً مقدم برنامج «Palestine: The Holy Land»، (فلسطين: الأرض المقدسة)، على قناة «هلال» الدعوية الإسلامية.
كيف وصل الإسلام إلى جنوب أفريقيا؟
يقول الشيخ والز: إن تاريخ المسلمين في جنوب أفريقيا مرتبط بشكل وثيق بفترة الاستعمار الهولندي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، موضحاً أن شركة الهند الشرقية الهولندية كانت بحاجة إلى محطة توقف للسفن المتجهة إلى آسيا عبر رأس جنوب أفريقيا.
وفي عام 1652م، أسس يان فان ريبيك محطة في منطقة الرأس، وهي الآن كيب تاون، وبعد إنشاء هذه المحطة، بدأ الهولنديون في جلب العبيد والمعتقلين السياسيين من إندونيسيا وماليزيا والهند وأفريقيا للعمل في الحقول، وفق سرديات الشيخ والز حول وصول المسلمين إلى بلاده.
أبرز الشخصيات
ولفت الشيخ والز إلى أن من بين المعتقلين السياسيين من إندونيسيا كان هناك الشيخ يوسف المكاساري، وهو شخصية إسلامية بارزة، جيء به إلى منطقة الرأس كمعتقل سياسي مع 49 من أتباعه، وقال: رغم ظروف الأسر، لم يتوانَ الشيخ المكاساري في نشر الإسلام بين أتباعه وغيرهم من العبيد المحليين، قبل أن يستقر في بلدة صغيرة تُدعى مكاسار، قضى بها السنوات الخمس الأخيرة من حياته، ويعد أحد الآباء المؤسسين للإسلام في جنوب أفريقيا.
وحول سيرة الشيخ المكاساري، يقول ولز: الشيخ المكاساري كان من أقرباء أحد سلاطين إندونيسيا، وكان حافظًا للقرآن وعالمًا في الحديث والفقه والتفسير، وعلى الرغم من قصر فترة إقامته في منطقة الرأس، فإنه ترك وراءه إرثًا إسلاميًا عظيمًا، ساعد في نشر الإسلام بين السكان المحليين على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهها.
وبحلول عام 1780م، بدأت وتيرة انتشار الإسلام تتسارع مع وصول شخصيات أخرى منفية مثل الإمام عبدالله قاضي عبدالسلام، المعروف بـ«توان جورو»، صاحب أول مصحف وأول مسجد في جنوب أفريقيا.
وتعود أصول توان جورو إلى جزر تيدور في إندونيسيا، وحل هو الآخر في منطقة الرأس كسجين سياسي وأرسل إلى جزيرة روبن، حيث قضى 13 عامًا في السجن، وكتب خلال فترة سجنه القرآن الكريم كاملًا من ذاكرته.
ومصحفه الذي كتبه يعتبر اليوم أحد أول المصاحف المكتوبة في جنوب أفريقيا، كما أسس الشيخ عبدالله قاضي المشهور بـ «توان جورو» عقب إطلاق سراحه في العام 1794م، مسجد أولوال في منطقة ب-كاب في كيب تاون التي كانت سابقًا حيًا للعبيد المسلمين من كيب ملاي، فيما أصبحت اليوم موقعًا سياحيًا بفضل منازلها الملونة، أما مسجد أولوال الذي أسسه الشيخ توان جورو يعتبر أول مسجد بني في جنوب أفريقيا، وأصبح رمزًا للإرث الإسلامي في البلاد، وفق إفادة الشيخ والز لـ«المجتمع».
وجنوب أفريقيا التي تعد من بين أكثر دول العالم تنوعاً في الأعراق والثقافات والأديان، خاصة الإسلام الذي عرف طريقه إليها منذ القرن الـ17، شكلت مؤخراً حضوراً مشرفاً إلى جانب القضية الفلسطينية، وتصدرت المشهد بدعوى قضائية ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية أواخر العام الماضي، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، الدعوة التي أصدرت المحكمة بموجبها قراراً، في 26 يناير الماضي، لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا باستثناء الأمر بوقف الحرب على غزة.
واقع مسلمي جنوب أفريقيا
وتناول الشيخ والز واقع مسلمي جنوب أفريقيا وما تحقق حتى اليوم، موضحاً أنه رغم المعاناة الطويلة التي واجهها المسلمون في جنوب أفريقيا، خاصة خلال الفترة الاستعمارية، فإن التزامهم بالقرآن والتقاليد النبوية ساهم في ترسيخ الإسلام وانتشاره في جميع أنحاء البلاد، وأضاف: يدين المسلمون في منطقة الرأس اليوم بالفضل لآبائهم المؤسسين الذين جاهدوا لنشر الإسلام والحفاظ عليه، حتى أصبحت كيب تاون تضم أكثر من 200 مسجد، فضلاً عن وجود جامعة إسلامية والعديد من المعاهد والمدارس لتحفيظ القرآن.
مجلس القضاء وتعدد المهام
وضمن جهود ومجاهدات المسلمين في جنوب أفريقيا تأسيسها لمجلس القضاء الإسلامي في العام 1945م، حيث تسند إليه إصدار الفتاوى في القضايا الشرعية المختلفة التي تواجه المسلمين في حياتهم اليومية من خلال علماء مؤهلين ومتخصصين في الفقه الإسلامي لضمان دقة الفتاوى وتوافقها مع مبادئ الشريعة.
وتابع والز حديثه عن مجلس القضاء ودوره الطليعي منذ 8 عقود، وقال: إن المجلس يعتبر مرجعًا لحل النزاعات بين الأفراد في إطار الشريعة الإسلامية من خلال التحكيم والتوسط بين الأطراف المتنازعة، بما يضمن الوصول إلى حلول عادلة ومستدامة.
هذا إلى جانب دوره في إدارة شؤون الزواج والطلاق، حيث تسند إلى المجلس عملية إصدار عقود الزواج وفقاً للشريعة الإسلامية، وكذلك يتولى إجراءات الطلاق والخلع وفقاً للأحكام الشرعية، فضلاً عن عمله في توفير خدمات الاستشارة للأزواج والأسر بهدف تعزيز الاستقرار الأسري.
كما يدير المجلس العديد من البرامج التعليمية والتوعوية التي تهدف إلى تعزيز الوعي الديني والمعرفة الشرعية بين المسلمين، من خلال عقد وتنظيم الدورات التعليمية والمحاضرات العامة حول قضايا الفقه والعقيدة، بجانب إشرافه على المساجد في منطقة كيب تاون، بما في ذلك تعيين الأئمة والخطباء وتقديم الدعم اللازم لضمان تقديم الخدمات الدينية بشكل فعال.
وختم الشيخ والز حديثه لـ«المجتمع»، قائلاً: بفضل الصمود والإيمان القوي، استطاع المسلمون الحفاظ على إسلامهم ونقله للأجيال؛ ما ساهم في تشكيل ثقافة إسلامية فريدة، وهذا ما يميزهم عن بقية الأقليات الإسلامية الأخرى في العالم أجمع.