من أهم صفات المجتمع المسلم الطهر والعفاف وستر العورات وكراهية انتشار الفاحشة بين المسلمين حتى لو كانت مجرد أحاديث بين الناس يثيرها الشيطان ليوقع بينهم العداوة والبغضاء، واعتياد الخوض في الأعراض دون بينة واضحة وجهر من أصحابها يوجب الحدود والعقاب، والأصل في الإسلام ستر العورات ومساعدة الضعفاء على النهوض والعودة والتوبة لرب العالمين دون فضح وهتك للستر.
والستر «تغطية عيوب المسلم وإخفاء زلاته»(1)، ومعنى العورات: «كل ما يستره الإنسان استنكافاً أو حياءً»(2)، وقد أوجب الإسلام على المسلم أن يستر نفسه إذا غلبته نفسه وانزلق إلى حيث يغضب الله عز وجل، وما عليه إلا أن يبادر للتوبة ويسرع في الخيرات تكفيراً عما اقترف.
بل جعل الجهر بالمعصية معصية أخرى تستوجب العقاب، فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» (رواه البخاري، ومسلم).
ستر العيوب.. شريعة
وجه الله عز وجل أمته لفضيلة ستر عيوب المسلمين خاصة إذا ستروا على أنفسهم ولم يجاهروا بالمعاصي، بل توعد من ينشرون عيوب الناس بإدخالهم فيمن يحبون نشر الفاحشة في الذين آمنوا ولهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فيقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)، وفي هذه الآية حكم خطير يتساهله الناس ويقعون فيه وهم لا يدركون أنهم وقعوا في كبيرة وهو نقل الأخبار على الألسنة دون تبين، ودون إدراك حجم ما يمكن أن ينبني على التهاون في ذلك الفعل من تلويث للمجتمع المسلم باعتياد الحديث في مثل تلك الأمور، بينما كان الأولى الستر وتضخيم جريمة الغيبة عوناً لصاحب العورة ليرجع لله خوفاً من الفضح، ولا يكون عوناً للشيطان عليه.
وقد أمر الله سبحانه بعدم التجسس وتحسس أخبار الناس، وحسن الظن بهم، والبعد عن محاولة التثبت من صحة الفعل من عدمه إلا أن يكون للنصح الجميل فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فليجتنب كثير منه احتياطاً، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً، وقال مالك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً»(3) (رواه البخاري).
في المنهج النبوي
اهتمت السيرة النبوية بكل ما يمس الأخلاق حفاظاً على طهارة المجتمع واستقامته، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على مكارم الأخلاق وحسن الصلة بين المسلمين كأفراد وجماعات، وحثت كذلك على صون المجتمع من الفتن، وصون اللسان من الفحش، وحرص على لحمة المجتمع ونشر روح المحبة بين لبناته، وللوصول لذلك السمت المجتمعي كان لا بد من الاهتمام بمسألة عفة اللسان من التعرض للآخرين بالنيل من سمعتهم والخوض في أعراضهم بغير حق، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (رواه مسلم).
فعن فضل الستر فيروي أبو هريرة، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم)، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه البخاري، ومسلم).
وعن حرمة تتبع عورات الناس بحجة التثبت والبحث عن أدلة الإدانة، روى أبو داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (صحيح أبي داود).
وفي بيعة النساء، روى الشيخانِ عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ (جماعة) مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك» (رواه البخاري، ومسلم).
ماذا يفعل من سقط في معصية الله؟
الإنسان ليس معصوماً من الأخطاء، ولذلك شرع الله التوبة والندم على الذنب وتصحيح مسار المسلم بالإكثار من الاستغفار والذكر والصلوات والصدقات وفعل الخيرات ليتوب عن ذنبه فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار) (التحريم: 8).
وعلى المسلم إذا وقع في المعصية أن يسعى لستر نفسه ما استطاع، يقول الإمام الغزالي: «على المسلم أن يستر عورة نفسه فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره»(4).
حدود الستر على المجاهرين
المسلم غيور على دينه، غيور على أعراض إخوانه، غيور على حرمات شريعته، فكما هو مأمور بالستر على العصاة الذين لم يجاهروا بالمعاصي، فكذلك هو مأمور بمنع الجرائم الأخلاقية في مجتمعه طالما لم يرتدع العاصي ولم يستر نفسه وبارز الله بمعاصيه في وضح النار، فهؤلاء يكونون خطر على المجتمع، وحافزين لآخرين على الإقدام على المعصية ويجب ردعهم ومنعم قبل أن يستفحل الأمر وتصير الفاحشة معروفاً.
يقول المباركفوري: وأما الستر المندوب إليه فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه؛ بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله؛ هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك؛ ولا يحل تأخيرها؛ فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة(5).
_________________________
(1) نضرة النعيم، ج6، ص 2236.
(2) المعجم الوسيط، ص 636.
(3) تفسير ابن كثير.
(4) إحياء علوم الدين للغزالي، ج2، ص 200.
(5) تحفة الأحوذي (8/ 215).