إن الصبر ضرورة من ضروريات الحياة، فلا بد لكل إنسان في هذه الحياة من الصبر لتحصيل أسباب المعيشة وخوض غمارها، وقد خلق الله الإنسان ليكابد الحياة وصعوبتها وآلامها، ومن يتأمل حال المتفوقين الناجحين يرى أنهم وصلوا إلى تحقيق أمنياتهم وأهدافهم بالصبر والجد والاجتهاد والمصابرة، وإن من أعظم الثمار التي يجنيها المسلم من الصبر والتحمل والمصابرة تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، ومحو الخطايا ودخول الجنان، ومما يعين المسلم على الصبر، وتحمل البلاء أن ينظر إلى جزاء الصابرين، وما أعد الله لهم من الكرامة في جنات النعيم.
مكانة الصبر في القرآن والسُّنة
«إن الصبر من أبرز الأخلاق القرآنية التي عني بها الكتاب العزيز في سوره المكية والمدنية وهو أكثر خلق تكرر ذكره في القرآن الكريم»، يقول الإمام الغزالي في كتاب «الصبر والشكر»، من ربع المنجيات، من كتابه «إحياء علوم الدين»، ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً، وينقل العلامة ابن القيم في «مدارج السالكين» عن الإمام أحمد قوله: «الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً، ولا نعلم شيئاً ذكره الله تعالى هذا العدد إلا الصبر، وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر إلى ماله من قيمة كبيرة دينية وخلقية، فليس هو من الفضائل الثانوية أو المكملة، بل هو ضرورة لازمة للإنسان ليرقى مادياً ومعنوياً، ويسعد فردياً واجتماعياً، فلا ينتصر دين، ولا تنهض الدنيا إلا بالصبر، فالصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية، فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر» (القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 12 – 7).
«وما ذلك إلا لدوران كل الأخلاق حوله وصدورها منه، وهو خلقٌ كريمٌ يعين الإنسان على تحمّل المصاعب الحياتية اليومية؛ حيث إنّه لا تكاد تخلو حياة إنسان من الامتحانات والأزمات والمشاكل، وإذا كان هذا شأن الصبر مع كل الناس، فأهل الإيمان أشد الناس حاجة إليه لأنهم يتعرضون للبلاء والأذى والفتن، قال تعالى: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت)، وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وكان التأكيد أشد في قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: 186) (ندا أبو أحمد، فضائل الصبر في القرآن الكريم، موقع الألوكة، 2023م).
والحق تبارك وتعالى قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيمه ومثله العليا، فقرنه بالصلاة (واستعينوا بالصبر والصلاة) وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات)، وجعله قرين التقوى (إنه من يتق ويصبر)، وقرين الشكر (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)، وقرين الحق (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وقرين المرحمة (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)، وقرين اليقين (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)، وقرين التوكل (نعم أجر العاملين)، (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)، وقرين التسبيح والاستغفار (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار)، وقرنه بالجهاد (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)، وإيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، وهذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر، ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل” (فضل الصبر، موقع إسلام سؤال وجواب، 2006م).
ولا شك أننا عندما نتحدث عن فضيلة الصبر فإن أول ما يتبادر إلى ذهننا هو نبي الله أيوب عليه السلام، فهو النموذج الأبرز بين الأنبياء والمرسلين الذي ارتبط اسمه بصفة الصبر، فأيوب عليه السلام تعرض لمختلف أنواع البلاء في المال والولد والجسد لزمن طويل، فصبر على ذلك صبراً جميلاً، وكان قدوة الصابرين لمن بعده، فضرب الله تعالى به المثل في التحلي بهذه الفضيلة وأثنى عليه فقال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء)، وقال سبحانه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ {42} وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ {43} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص) (الصلابي، مسودة كتاب نبي الله أيوب، ص16).
وإن قدوتنا في هذا الخلق الرفيع وهذا الصرح المنيع هو رسولنا المكرم وأسوتنا المعظم، فقد تحمل وصبر من أجل هداية الناس إلى الحق، واستعذب المر واستسهل الصعب، وتحمل أنواعاً من البلاء وأصنافاً من الضراء، حتى وصفه ربه بأنه ذو خلق عظيم، وهذه طائفة عطرة من أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم في فضيلة الصبر والصابرين:
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» (رواه البخاري، ومسلم).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه»؛ أي يصيبه ببلاء. (رواه البخاري، ومالك).
– وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يُشَاكُها» (رواه البخاري، ومسلم).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الجنة ثم احتسبه إلاَّ الجنة» (رواه البخاري).
– وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة» (رواه البخاري والترمذي)، (الصبر عدة المؤمنين، إسلام ويب، 64328).
جزاء الصابرين وفضل الصبر في هذا الزمان
وعد الله تعالى عباده الصابرين بالأُجور العظيمة، والكثير من البِشارات، ومن هذه البِشارات التي جاءت في القُرآن الكريم قوله -تعالى- واصفاً أجرهم: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 157)؛ فقد وعدهم الله بالصلاة عليهم؛ وبالمغفرة والرأفة، وذكرها الله بصيغة الجَمع؛ للدلالة على الكَثرة، كما وعدهم بالرحمة من خلال إزالته لآثار المُصيبة أو تعويضهم خيراً منها، إلى جانب أنّه وعدهم بهدايتهم إلى ما يُريدون من أُمور الدُّنيا والآخرة، كما أنّ الله -تعالى- يُضاعف للصابر أجرَه مرَّتَين، ويوم القيامة يُبشّره بالجنّة من غير حساب؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، والصبر يُوجِب وجود مَعيّة الله تعالى- للعبد، جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يسأله عن الإيمان فقال له: «الصَّبرُ والسَّماحَةُ»، ويُؤيّدُ الله تعالى الصابرين بنصره، إضافة إلى أنّ الصبر علامة تدُلّ على صِدق العبد؛ وأنّ الذي يصبر على البلاء، ويصبر عن الحرام يستحقّ أن يُشمَل برحمة الله تعالى ومَدحه، والصبر على المكاره والشهوات سبب لدخول الجنّة، والابتعاد عن النار، كما أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- بيّن أنّ المؤمن الصابر في خير دائماً؛ ففي حالة السرّاء يشكر، وفي حالة الضرّاء يصبر، قال عليه الصلاة والسلام: «عجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»، وأهل الصبر يكون لهم الفوز والنجاة، قال تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون: 110)، ويُعَدّ الرضى والتسليم لله تعالى من علامات الصبر؛ وذلك سبب لهداية القلب ورقّته. (حنين محمد، جزاء الصابرين، موقع موضوع، 2021).
لذلك فمن الواجب هو احتساب أي بلاء امتحاناً من الله مع احتساب الأجر والثواب على الله، فهوَ الولي وهو الناصر وهو على كل شيءٍ قدير، وحاشا له أن يترك عباده إن صبروا في هذا الامتحان الرباني العظيم (سحاري، وبشر الصابرين، الجزيرة).
والجنة إذن لابد لها من ثمن، وهي سلعة غالية، فلا مفر من الثمن، وقد دفعه أصحاب الدعوات من قبل، فلابد أن يدفعه إخوانهم من بعد، وهذا هو ثمن الجنة، الصبر على البأساء تصيب الأموال، والضراء تصيب الأبدان، والزلزلة تصيب النفوس، ولابد أن يبلغ هذا الزلزال النفسي من الشدة إلى حد يقول عنده الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ (القرضاوي، سابق، ص15).
فالصابر له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، أو له الجنة والكرامة في الآخرة إذا صبر على تقوى الله سبحانه وطاعته، وصبر على ما ابتلي به من شظف العيش والفاقة والفقر والمرض ونحو ذلك كما قال الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) إلى أن قال سبحانه: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)، والصبر والتقوى عاقبتهما حميدة في جميع الأحوال، قال تعالى في حق المؤمنين مع عدوهم: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120) (ابن باز، مجموع الفتاوي، 6/ 470).
_________________________
1- الصبر في القرآن، يوسف القرضاوي، مكتبة القاهرة، ط3، 1989م.
2- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (6/ 470).
3- فضل الصبر، موقع الإسلام سؤال وجواب، السؤال رقم 35869، 2006م.
4- فضائل الصبر في القرآن الكريم، ندا أبو أحمد، موقع الألوكة، 2023م.
5- الصبر عدة المؤمنين، موقع إسلام ويب، 64328، 2004م.
6- جزاء الصابرين، حنين محمد، موقع موضوع، 2021م.
7- مسودة كتاب ” نبي الله أيوب (عليه السلام) “، علي محمد الصلابي.
8- بلاء عظيم وبشر الصابرين، محمد سحاري، مدونات الجزيرة، 10/11/2018.