رغم أن الدستور الأمريكي يفصل بين الكنيسة والدولة، وأول شيء يتعلمه طلاب المدراس الأمريكية هو أن الفصل بين الكنيسة والدولة مبدأ أساسي في الدستور الأمريكي، فإنه لا يتم فصل الدين عن السياسة الأمريكية فعلياً.
الدستور الأمريكي، الذي يبدو كوثيقة علمانية، يبدأ بعبارة «نحن الشعب»، ولا تحتوي الوثيقة على أي ذكر لكلمة «الرب» أو «المسيحية».
كما أن الإشارة إلى كلمة «دين» في الدستور استخدمت على نحو معاكس تماماً للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات على أساس عقائدهم، إلا أن دور الدين في حياة الأمريكيين والانتخابات كبير ومؤثر.
ومن دلائل تأثير المسيحية في الأمريكيين عبارة «أمة واحدة بأمر الرب» الموجودة في قسم الولاء للدولة، وعبارة «نثق في الرب» المنقوشة على عملة الدولار.
لذا، تشير دراسات أمريكية إلى أن تجربة أمريكا تمثل نقيضاً للحالة الأوروبية في الفصل التام بين الدولة والكنيسة، حيث يغلب على الشعب الأمريكي التدين ولو ظاهرياً.
وتنص الفقرة السادسة من الدستور على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل أي وظيفة حكومية، كما نص أول تعديل أدخل على الدستور على أن الكونجرس لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس ديني.
ورغم أن الدستور الأمريكي يفصل بين الكنيسة والدولة، فإن صحفاً ومراكز أبحاث أمريكية تركز على دين كل مرشح وطائفته الدينية وماذا قال في حملته الانتخابية عن الدين؛ ما يعني أنه غصباً عن الدستور لا يتم فصل الدين عن السياسة.
وقال مركز أبحاث «بيو»، في 6 يونيو 2024م: إن لدى الناخبين الذين كانوا يدعمون جو بايدن، ثم كاميلا هاريس، ودونالد ترمب، وجهات نظر مختلفة تمامًا حول الدور الذي يجب أن يقوم به الدين في الحكومة والسياسة الأمريكية، حيث يبدو أن أنصار ترمب أكثر ميلاً من مرشحي بايدن، ثم هاريس، إلى تفضيل دور حكومي أوسع في دعم الدين.
كما تقول نسبة أكبر من مؤيدي ترمب مقارنة بمؤيدي بايدن، وهاريس: إن الدين -وخاصة الكتاب المقدس- يجب أن يكون له تأثير على السياسة الحكومية.
الدين في الخطاب السياسي
عقب نجاته من حادثة إطلاق النار عليه، في 13 يوليو 2024م، قال الرئيس الأمريكي السابق، المرشح الحالي دونالد ترمب في خطاب انتخابي: شعرت أن الله كان إلى جانبي حين تم إطلاق النار عليَّ، وفق موقع «فارايتي»، في 18 يوليو، ثم انبرت بولا وايت، وهي داعية إنجيلية ومستشارة ترمب الدينية، لتقول: إنه نجا لأن الرب هو الذي كان يحميه.
وكتبت منشورًا على منصة «إكس» مع صورة لترمب وصورة شخص يقف خلفه ويحيط به، زعمت أنه المسيح عليه السلام، وقالت: الرب معه ويحميه، أدعو من أجل الرئيس دونالد ترمب!
https://x.com/Paula_White/status/1812280224379519277
وقبل ذلك جمعت وايت عددًا من كبار القساوسة ورجال الدين في مكالمة طارئة مدتها أربعون دقيقة للدعاء من أجل أن ينصر الله ترمب على عدوهما بايدن، خلال المناظرة التلفزيونية، في 27 يونيو.
وفي يناير الماضي، وهو يفتتح مؤتمر ترشحه للرئاسة بولاية أيوا، قال ترمب، الذي نشأ في الكنيسة المشيخية: أنا فخور بأن أعلن اليوم أن حملتنا الانتخابية قد حظيت بتأييد القساوسة ورجال الدين في كل من المقاطعات الـ99 للولاية.
وقد كشف استطلاع أجرته وكالة «رويترز»، في يوليو، أن 65% من الجمهوريين يعتقدون أنه كان هناك تدخل إلهي لإنقاذ ترمب، ويد الرب أنقذت ترمب!
وفي تقرير حول الأبعاد الدينية في معركة الانتخابات الأمريكية، يقول د. كوبي باردا، وهو باحث صهيوني كبير في دراسة الأديان بجامعة حيفا، خبير في التاريخ السياسي والجيوستراتيجي الأمريكي: إن الدين يؤدي دوراً في الانتخابات خصوصاً في معسكر الحزب الجمهوري الذي يؤمن بالإنجيلية والصهيونية المسيحية.
وأضاف أن البيض الأنجلوساسكون (البروتستانت) يعتقدون أنهم مظلومون، فهم أهل البلاد ومؤسسوها، لكنهم أخذوا يتعرضون للتهميش، وبعد أن كان الرئيس منهم منذ التأسيس (باستثناء فترة عابرة لكينيدي)، جاء أوباما (الأسود) لدورتين، ثم تلاه الكاثوليكي (بايدن).
وهو ما يعني أنهم مهددون بمزيد من التهميش، ولذلك استخدموا الخطاب الديني (الإنجيلي) في دعم كائن غير متدين؛ ما يعني أن القضية عرقية أو فئوية، لكنها تلبس ثوب الدين، ومن خلالها تسيطر فئة لها مشروعها (الإنجيليون هنا).
ويستفيد ترمب من دعم القس روبرت جيفريس، أحد أبرز قساوسة الكنيسة المعمدانية التاريخية في تكساس، وهي كنيسة تضم 14 ألف عضو.
فالدين ظهر أيضاً في معسكر بايدن الكاثوليكي، فقبل انسحابه من السباق الرئاسي، كان بايدن الكاثوليكي (عدو الله من وجهة نظر أنصار ترمب المتدينين الإنجيليين) يقول: إنه كان منفتحًا بشأن إيمانه طوال حياته السياسية.
وفي خطاب النصر الذي ألقاه كرئيس منتخب في عام 2020م، أشار إلى الترنيمة الكاثوليكية على أجنحة النسر، وقال: إنه استفاد من الدعم المعلن له من 1600 قس ورجل دين خلال الانتخابات، الذي وُصف بأنه أكبر مبادرة دينية لدعم مرشح ديمقراطي في التاريخ الأمريكي الحديث.
دور الدين والكنيسة
وأظهرت الانتخابات السابقة والحالية أن تأييد قساوسة لمرشحين للرئاسة أو المناصب التنفيذية والتشريعية يؤدي دوراً في الدعاية القوية لهم.
حيث يدرك كبار الساسة الأمريكيين أن تأييد القساوسة لأي مرشح يجعله يظهر مؤيداً وداعماً للقيم والمبادئ التي تهم المتدينين في أمريكا، ويضفي طابعاً أخلاقياً ودينياً على حملته ويعزز جاذبيته للناخبين المتدينين.
ويقول د. توبين ميلر شيرر، أستاذ التاريخ بجامعة مونتانا، في تقرير بمجلة «ذا كونفرزيشن»، في 3 يناير، عن اختلاط الدين والكنيسة بالانتخابات الأمريكية: إن أمريكا تصف نفسها بالديمقراطية والحرية والعلمانية، ومع هذا تؤدي الكنيسة دوراً مباشراً في التأثير على آراء الناخبين، ويسعى المرشحون الرئاسيون للحصول على مباركة القساوسة ورجال الدين.
وقال: في سباق عام 2016م، ساهم الناخبون الإنجيليون جزئيًا في فوز ترمب وأكثر من 55% من رواد الكنيسة الأسبوعيين أيدوه، وساهم استحواذ ترمب على 66% من أصوات الإنجيليين البيض في ترجيح كفته ضد منافسته هيلاري كلينتون.
وأضاف أن بايدن فاز على ترمب عام 2020م لأنه نجح في جذب زملائه الكاثوليك إلى معسكره، وأقنع بعض الإنجيليين أيضًا بالتصويت لصالحه وحصل بايدن على تأييد 1600 من قادة الديانات الكاثوليكية والبروتستانتية والإنجيلية.
ويقول د. توبين ميلر شيرر: إن ثلاثة اتجاهات رئيسة تظهر في انتخابات عام 2024م، والفترة التي تسبق الانتخابات تشهد تكثيف الخطاب حول نهاية العالم، ومزيد من مزاعم الدعم الإلهي والصمت النسبي من جانب المجتمع الإنجيلي بشأن صعود القومية المسيحية.
أولها: انتشار خطابات نهاية العالم وممارستها دوراً بارزاً في السياسة الأمريكية منذ فترة طويلة، وكذا انتشار الادعاءات التاريخية بالسلطة الإلهية للديمقراطية لتحدي الديمقراطية
وثانيها: ادعاء العديد من الزعماء السياسيين في الولايات المتحدة أنهم يتمتعون بتفويض إلهي.
وأكد أن التحول من الادعاءات التاريخية بالسلطة الإلهية للديمقراطية إلى السلطة الإلهية لتحدي الديمقراطية أصبح واضحاً وجلياً بالفعل.
والثالث: تزايد الحديث عن تفوق العرق الأبيض والقومية المسيحية من جانب العنصريين البيض الذين يزعمون وقوف الرعاية الإلهية إلى جانب البيض بشكل عام.