أورد الإمام القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال، قال أبو جهل: إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول، فنزل قول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت: 26)، قال مجاهد: المعنى: والغوا فيه بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق، حتى يصير لغواً، وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول(1)؛ وفي هذا دليل على حرص الكافرين على صرف الناس عن الاستماع إلى القرآن الكريم،.
وهذا دأب أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، حيث يحرصون على التشويش عليه وإشغال الناس عنه، ولفت انتباههم إلى المغريات التي تصرفهم عنه، وإن الاستماع إلى القرآن الكريم له فوائد وفضائل عظيمة، تتبين فيما يأتي:
أولاً: الاستجابة لأمر الله:
قال الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204)؛ أي أصغوا له سمعكم، لتتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه(2)، ووصف تعالى عباد الرحمن أنهم إذا تلي عليهم القرآن لا يصمون آذانهم عن سماعه، بل ينتبهون له ويستمعون إليه ويهتدون بهديه، حيث قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان: 73)، ووصف تعالى أهل العلم أيضاً بحسن الاستماع إلى القرآن الكريم والتأثر به، حيث قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً {106} قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً {108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء).
ثانياً: الاقتداء برسول الله:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستمع للقرآن الكريم ويعلن حبه لذلك، ففي الصحيحين عن أبى موسَى الأشعري قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «لَو رأيتَنِي وأنا أسمَعُ قِراءَتَكَ البارِحَةَ، لَقَد أوتيتَ مِزمارَا مِن مَزاميرِ آلِ داودَ»، فقالَ: لَو عَلِمتُ لَحَبَّرتُه لَكَ تَحبيرًا.
وروى أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ذات ليلة وهو بين أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما، وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ «النساء»، فانتهى إلى رأس المائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد»؛ يعني عبدالله بن مسعود.
وفي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اقرأ عليّ القرآن»، قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، قال ابن بطَّال: يحتمل أَنْ يكون أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَه من غيره ليكون عَرْضُ القرآن سُنَّةً، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونَفْسُه أخلى وأنشط لذلك من القارئ؛ لانشغاله بالقراءة وأحكامها(3).
ثالثاً: الهداية إلى الصراط المستقيم:
أكد الله تعالى أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، حيث قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، وقال عز وجل: (فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر)، كما أوضح القرآن الكريم أن الجن حين استمعوا للقرآن أعلنوا أنه يهدي إلى صراط مستقيم، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ {29} قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأحقاف).
وقد أكدت بعض الدراسات الحديثة أن الاستماع إلى القرآن الكريم يهدي عقل الإنسان وقلبه وبدنه إلى الخير، فيخفف من أمراضه ويحسن من سلوكه، حيث قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
رابعاً: التعرض لرحمة الله:
إن الله تعالى يبين لنا أن الاستماع إلى القرآن الكريم يجلب رحمته عز وجل ويجعل العبد أهلاً لها، حيث قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204).
خامساً: طهارة القلب وطمأنينته:
إن قراءة القرآن الكريم والاستماع إليه من شأنه أن يلين القلب ويطمئنه، حيث قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23)، وقال عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان: 32).
بل إن الاستماع إلى القرآن الكريم يجلب الخشوع للقلب، حيث قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21)، وعن سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه قال: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ(4).
سادساً: تحصيل الحسنات المضاعفة:
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كتب له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة».
سابعاً: زيادة الإيمان:
يسهم الاستماع إلى القرآن الكريم في زيادة الإيمان، حيث قال عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال: 2)، ووجه ذلك: أنهم يُلقون له السَّمع، ويُحضرون قلوبَهم لتدبره فعند ذلك، يزيد إيمانهم(5).
ثامناً: وسيلة للدعوة إلى الله:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً أن يسمع الناس القرآن الكريم، وكان المشركون يتسللون في الخفاء ويستمعون إلى القرآن منه صلى الله عليه وسلم ومن سيدنا أبي بكر الصديق فيتأثرون به، وقد حث الله تعالى المؤمنين أن يبلغوا القرآن للناس حتى يسمعوه، حيث قال عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6).
تاسعاً: الحماية من الانحياز للضالين:
وصف الله تعالى الذين لا يؤمنون بالآخرة بأنهم يبتعدون عن سماع القرآن، وقد صرفهم الله وأضلهم حين أعرضوا عنه، حيث قال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً {45} وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً {46} نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً) (الإسراء)، وقال عز وجل: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) (الأنعام: 25)، وقد وصف الله تعالى الذين يعرضون عن سماع القرآن الكريم بأنهم شر الدواب، حيث قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ {21} إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ {22} وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال).
عاشراً: النجاة من العذاب الأليم:
إن تعمد الإعراض عن سماع القرآن الكريم والانتفاع بهديه لا يؤدي إلى الضلال في الدنيا فحسب، بل إنه يؤدي إلى العذاب في الآخرة، حيث قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الجاثية).
____________________________
(1) تفسير القرطبي (15/ 356).
(2) المرجع السابق (13/ 344).
(3) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (9/ 117).
(4) فضائل الصحابة: الإمام أحمد بن حنبل (1/ 479).
(5) تفسير السعدي (2/ 188).