كاتب المدونة: أسامة غريب (*)
في حياة الأمم والشعوب، يتجلى دور الفكر والعلم في قيادة مسيرتها نحو التقدم والازدهار، ويمثل العلماء والمفكرون أعمدة رئيسة ترتكز عليها المجتمعات للحفاظ على هويتها وتوجهاتها الأخلاقية والفكرية، ولكن عندما يرحل هؤلاء الكبار، تخسر الأمة جزءًا كبيرًا من قيمتها وتراثها، وتنقص من أطرافها تلك الدعائم الفكرية التي كانت تشكل حائط الصد أمام التحديات المختلفة.
عظمة الفقدان.. العلماء كمصدر للنور والهداية
يعتبر الأستاذ محمد أحمد الراشد أحد أولئك المفكرين الذين أثروا في مسيرة الأمة بأفكارهم ونضالهم من أجل نشر قيم الإسلام والاعتدال، بوفاته، فقدت الأمة واحدًا من أعظم رموزها الفكرية، الذي كان يشكل مصدر إلهام للكثيرين، كان الراشد يمثل بوصلة فكرية توجه الكثيرين إلى طريق الصواب في ظل الأزمات والتحولات، ومع رحيله، يصبح السؤال الملحّ: كيف يمكن للأمة أن تملأ هذا الفراغ الكبير الذي تركه؟
لا يتوقف الأمر عند الراشد وحده، بل هو جزء من موجة رحيل عدد من كبار مفكري الأمة في السنوات الأخيرة، فقدنا على مدار العقود الماضية أسماءً لامعة في سماء الفكر الإسلامي، مثل الشيخ محمد الغزالي، ود. يوسف القرضاوي، ود. عبد الكريم بكار.. وغيرهم، هؤلاء العلماء لم يكونوا مجرد شخصيات رمزية، بل كانوا قادة فكر شكَّلوا العقل الجمعي للأمة، وأسسوا لإطار فكري ساعد على التصدي لأكبر التحديات التي واجهتها.
التأثير المستدام للعلماء.. إسهامات لا تموت
الرحيل الجسدي لهؤلاء المفكرين لا يعني أن أفكارهم وتأثيرهم قد انتهى، بل على العكس، فإن العلماء يتركون وراءهم إرثًا فكريًا لا يموت؛ كتبهم، مقالاتهم، محاضراتهم، وتوجيهاتهم تبقى حية، تلهم الأجيال القادمة وتوجههم في مسيرتهم، ولكن يبقى التحدي الأكبر في كيفية الحفاظ على هذا الإرث، وتطويره ليواكب متطلبات العصر.
من الأمثلة على ذلك، الشيخ محمد الغزالي، الذي كانت كتبه ومواقفه نقطة تحول في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث سعى إلى تقديم الإسلام بصورة حضارية تتناسب مع التحديات الحديثة، ورغم رحيله منذ سنوات، فإن كتبه وأفكاره لا تزال تدرس وتناقش، وتلهم المفكرين والمصلحين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
خطورة الفراغ.. الأمة أمام تحديات جسيمة
إن رحيل العلماء والمفكرين يخلق فراغًا يصعب ملؤه، ليس فقط على مستوى الفكر، ولكن على مستوى التوجيه والإرشاد، الأمة التي كانت تعتمد على هؤلاء العلماء في حل أزماتها والتعامل مع تحولات العصر تجد نفسها أمام تحدٍّ كبير، في غيابهم، تصبح الأمة أكثر عرضة للتأثر بالأفكار الدخيلة والتيارات الفكرية المنحرفة التي تسعى لإبعادها عن مسارها الصحيح.
التحدي يكمن أيضًا في ندرة المفكرين الذين يمكنهم ملء هذا الفراغ، فالعلماء الكبار لا يولدون كل يوم، وهم نتاج سنوات طويلة من التعلم والتجربة والنضال الفكري، في ظل هذا الواقع، يكون من الضروري التركيز على تربية الأجيال الجديدة على قيم العلم والفكر، وتشجيعهم على السير على خطى هؤلاء العلماء الكبار.
الحفاظ على الإرث.. مسؤولية الجميع
من أجل الحفاظ على إرث هؤلاء المفكرين، يجب على الأمة أن تعمل على نقل هذا الإرث إلى الأجيال القادمة، يمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير مناهج تعليمية تركز على فكر العلماء الكبار وإسهاماتهم، وتشجيع الدراسات والبحوث التي تستند إلى أعمالهم، كذلك، يجب العمل على تعزيز دور المؤسسات الفكرية والعلمية التي تحافظ على هذا التراث، وتعمل على تطويره ليتماشى مع تطورات العصر.
على المستوى الفردي، يجب على كل مسلم أن يسعى لقراءة كتب هؤلاء العلماء وفهم أفكارهم، وأن يعمل على تطبيقها في حياته اليومية، فالعلماء الكبار لم يكونوا مجرد مفكرين، بل كانوا أيضًا موجهين في السلوك والأخلاق، وكانت حياتهم تجسيدًا حيًا لما ينادون به، لذلك، فإن المحافظة على هذا الإرث تتطلب العمل على تطبيق هذه القيم والمبادئ في حياتنا اليومية، وأن نسعى لنكون سفراء لفكرهم وأخلاقهم في مجتمعاتنا.
ضرورة استمرارية الفكر والتوجيه
في نهاية المطاف، فإن رحيل كبار المفكرين لا يعني نهاية الطريق، بل هو بداية لتحدٍّ جديد علينا مواجهته، يجب أن نعمل جميعًا على الحفاظ على إرثهم ونقله للأجيال القادمة، كما أن علينا أن ندرك أن العلماء الكبار قد رحلوا بأجسادهم، ولكن أفكارهم ومبادئهم ستبقى حية، توجهنا في مسيرتنا وتساعدنا على مواجهة التحديات التي تواجه الأمة.
بفقدانهم، نخسر الكثير، ولكن بفهمنا لأهمية دورهم والعمل على الحفاظ على إرثهم، يمكننا أن نواصل المسيرة التي بدأوها، وأن نساهم في بناء مستقبل أفضل للأمة.
_________________
(*) كاتب صحفي.