سورة «البروج» واحدة من سور القرآن الكريم العظيمة التي تشيع بالرهبة والملحمة، حتى اعتبرها بعض المفسرين ذروة سنام الابتلاء في القصص القرآني الفريد!
إذ لم يرد في كتاب الله واقعة الإبادة الجماعية للمؤمنين جميعاً في جريمة ضد الإنسانية كمثل هذه المحرقة الكبرى التي فاقت الأساطير! يقول تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ {4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ {5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ {6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ {7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج).
إن جريمة هؤلاء الطواغيت كانت بشعة بشاعة لا تصفها قواميس اللغة، ولذلك توعدهم العظيم من فوق سبع سماوات بعذاب جهنم وعذاب الحريق جزاء وفاقاً لما ارتكبوا من محرقة تاريخية لا يمحوها الزمن، ثم أردف وعيده جل في علاه بخطاب شديد الرهبة يخلع قلوب المجرمين من صدورهم يقول (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج: 12)، ولقد أفاض المفسرون في شرح هذه السورة مركزين على أجواء الملحمية الدموية الرهيبة مما لا مزيد بيان عليه، مستندين إلى حديث طويل ورد في صحيح مسلم، والترمذي.
غير أن اللافت في آيات سورة «البروج» هو فتح الرحمن سبحانه باب التوبة أمام أولئك الطواغيت الزبانية!
يقول جل في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)(1)، سبحان الرحمن الرحيم وسعت رحمته كل شيء! يحرقون المؤمنين جميعاً في إبادة جماعية على العقيدة حتى لا ينجو منهم أحد، في جريمة وحشية ضد الإنسانية لم يذكر التاريخ البشري كله مثيلاً؛ إذ تكون الإبادة تامة شاملة لا تستثني أحداً ولا تفلت أحداً، وهم قعود شهود المتجرد من كل فطرة إذ يشرفون على الشواء البشري بحضورهم وشهودهم المباشر!
ثم يفتح لهم الرحمن باب التوبة! (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)؛ يا الله، وما لها من رحمة! حتى هؤلاء الطواغيت الذين ارتكبوا مجازر ضد الإنسانية فلا تسقط جرائمهم بالتقادم في قوانين البشر جزاء وفاقاً على ما ارتكبوه في الدنيا.
ولكنها تسقط عند التواب الرحيم بالتوبة!
والتوبة باب عظيم من أبواب رحمة الرحمن، يقول تعالى في صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً {68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً {69} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {70} وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) (الفرقان).
يقرن المولى عز وجل التوبة بالإصلاح، ولعل من أعظم أبواب الإصلاح رد المظالم والحقوق إلى أهلها، والإصلاح أقوى من العمل الصالح، فإصلاح الشيء بعد إفساده، إعادته إلى حالته قبل الإفساد، فإن تعذر إعادته فتعويضه حتى يرضى الذي مسه الضير على يدي المفسد.
وفي سورة «البقرة» يضيف المولى عز وجل شرطاً رابعاً للتوبة النصوح وهو التبيان؛ (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 160).
التوبة المقرونة بالإصلاح والعمل الصالح والتبيان مقبولة عند الله الرحمن الرحيم برحمته، مهما كانت بشاعة الجريمة التي ارتكبها المجرم!
ليست هذه دعوة إلى طول الأمد وارتكاب الجرائم على أمل التوبة فيما بعد، فمن يضمن عمره أن يقبضه الله عز وجل وهو على جريمته ومعصيته؟!
بل هي باب للذين أسرفوا على أنفسهم ولو كانوا من الطواغيت أن يسارعوا إلى التوبة والإصلاح والصلاح والتبيين، فما فتح الرحمن باب التوبة لهؤلاء إلا ليقبلها منهم بمشيئته ورحمته، حال عودتهم إلى الله بالتوبة النصوح بشروطها التي بينها، وهي باب أمل للمسرفين على أنفسهم من غير الطواغيت فلا شك أن معاصيهم أهون لو تابوا وأصلحوا.
اللهم افتح لنا أبواب توبتك، وتب علينا لنتوب إنك أنت التواب الرحيم.
_____________________
(1) قال ابن كثير والسعودي في تفسيرهما: وهو يدعوهم إلى التوبة!