حينما ذهب الكاتب الاقتصادي والإداري الأمريكي من أصل نمساوي بيتر فردناند دراكر (19 نوفمبر 1909 – 11 نوفمبر 2005م)، أستاذ ورئيس قسم إدارة الأعمال بجامعة نيويورك، إلى أن الإدارة بالأهداف، ورمزها المتداول «MBO»، وذلك عام 1954م في كتابه «الإدارة في التطبيق» (The Practice Of Management)، بأنها تعني أن كل عضو في منشأة الأعمال –أفراداً ومديرين- يُسهم بشيء لتحديد الأهداف المشتركة العامة، كما يجب أن تعمل جهودهم في نفس الاتجاه، وأن تتلاءم إسهاماتهم مع بعضها لإنتاج كلّ كامل شامل، لا توجد فيه ثغرات أو احتكاكات أو ازدواج غير مطلوب في المجهود، وهو ما يقتضي أن على كل منشأة -سواءٌ في القطاع الحكومي أو الخاص- أن تضع لها أهدافاً واضحة تسعى إلى تحقيقها، وأن تكون كافة المستويات الإدارية والموظفين على علم ودراية بهذه الأهداف وكيفية تحقيقها.
حينما قرر ذلك وكتبه لم يكن يدري أن «الإدارة بالأهداف» ستتحول إلى نظرية متكاملة تُكتب فيها الكتب، وتقام لها الندوات، وتعقد عنها المؤتمرات، وتصبح ضمن مقررات الدراسة في هذا التخصص، فالفكرة الأساسية وراء «MBO» هي إنشاء تفاهم مشترك بين المديرين والموظفين حول الأهداف المطلوب تحقيقها ووسائل تحقيقها، كما تتضمن العملية أيضًا مراجعات التقدم المنتظمة والتعليقات والتعديلات لضمان تحقيق الأهداف بشكل فعال.
فـ«الإدارة بالأهداف»، إذن، إحدى الاستراتيجيات الإدارية التي تتيح المجال لتوظيف كافة الموارد المتوفرة، ويمنح في نفس الوقت توجيهًا مشتركًا للجهود نحو الرؤية، وأيضاً خلق روح الفريق ومواءمة أهداف الفرد «الموظف» مع المصلحة المشتركة والعامة للمنشأة.
علاقة الإدارة بالأهداف بالفكر المقاصدي
إن المتأمل في مفهوم الإدارة بالأهداف وطبيعته وفوائده، لا يتردد لحظة في وصف هذا النوع من الإدارة بـ«الفكر المقاصدي في الإدارة»، ولعلها منطقة بكر لم يكتب فيها من قبل، وهي علاقة الفكر المقاصدي بالإدارة، أو تفعيل الفكر المقاصدي في علوم الإدارة؛ حيث تحتاج إلى كتابات تأصيلية تأسيسية تنتمي للكتابات البينية في العلوم.
والمتأمل في هذا النوع من الإدارة يجده يتطابق تماماً مع التفكير المقاصدي؛ فهو يتضمن(1):
1- وضع خطة مبدئية تحدد فيها الأهداف التي يمكن تحقيقها، وهذا هو عمق العمل المقاصدي سواء في الفقه أو الفتوى؛ حيث يتحرى المفتي والفقيه مقاصد الأحكام الشرعية بعد اكتشافها من طرقها المقررة، ويعمل على تحقيقها عند تنزيل الحكم على الواقع، وتكون أفقًا واسعًا يتحرك فيه المجتهدُ ولا يخرج عن دائرته.
2- مناقشة الخطة مع المساعدين الذين يقومون بإثرائها أو تعديلها؛ بحيث تصبح صالحة لتحقيق الأهداف، وهو عين ما تقوم به المجامع الفقهية من مشاورات وتداولات أثناء انعقاد اجتماعاتها الدورية والطارئة.
3- التوافق على خطة العمل الجماعية متضمنة واجبات القائد والعاملين، وهو ما يشير إلى الوسائل المؤدية لتحقيق الأهداف، ومن المقرر أن تراثنا الفقهي والأصولي متشبع بالحديث عن الوسائل، والقواعد المنظمة للعمل بها، ورائدها الكبير وضابطها العظيم هو فاعلية هذه الوسائل لتحقيق المقاصد، فكل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل.
4- التزام كل طرف بتنفيذ ما أسند إليه من واجبات، وهو مقتضى التشاور والاتفاق على خطة العمل، بما يعمل على تفعيل الطاقات والقدرات واستثمار المواهب وتفجيرها للوصول إلى المقاصد المتوخاة.
5- استعراض النتائج وتقييم خطة العمل المرسومة، وهذا عين النظر إلى الفتاوى والاجتهادات الشرعية في ضوء المقاصد المقررة لها، هل حقق التنزيل مقاصده كاملة، أم بعضها، أم لم يحقق شيئاً من ذلك، أم كانت نتائج التنزيل مناقضة للمقاصد، فيتم تقييم الحالة طبقاً لمقاصدها الموضوعة سلفًا، فالمقاصد حاكمة على التعامل مع النتائج، ومُرشّدة في تقييم الخطة وتقويمها؟
6- تنقيح الخطة السابقة وجعلها متمشية مع الظروف الجديدة، وتقوم المقاصد في هذا معيارًا كذلك، ومقومًا أساسًا في هذا التنقيح أو التعديل، فلا يتم تنقيح أو تعديل إلا في ضوء المقاصد؛ بحيث يكون هذا التنقيح أو التعديل عاملاً ومُسهمًا في تحقيق المقاصد، ومن المفيد معرفة أن المقاصد وتحديدها سلفاً تعطي مرونة كبيرة في اختيار الوسائل، وتقويمها وتجويدها وتعديلها، وقد تكون المقاصد حاكمة على تغيير الوسيلة إن لزم الأمر.
فوائد الإدارة بالأهداف في ضوء الفكر المقاصدي
إن المتأمل في هذا النوع من الإدارة آخذاً في الاعتبار الفكر المقاصدي ومقاصد الشريعة تتجلى له جملة من الفوائد المترتبة على إعمالها واعتمادها، ومن أهم هذه الفوائد:
1- إطلاق التفكير نحو الإبداع والابتكار، فإن إعمال مبدأ المشاورة في ظل الحرية أثناء وضع الأهداف من الجميع يطلق ملكات العقل للتفكير والإتيان بأحسن ما يمكن الإتيان به، وهذا يصب مباشرة في «حفظ العقل»، وهي كلية من كليات مقاصد الشريعة الضرورية، فإن حفظ العقل لا يكون بتحريم المسكرات فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى الأمور المعنوية التي تطلق الآفاق أمام العقل للتفكير والإبداع والإضافة، وهو ما يتحقق في نوع «الإدارة بالأهداف».
2- تحقيق الترابط والتآخي؛ وذلك أن إشاعة هذا الجو الصحي من خلال تحقيق مبدأ المشاركة الذي يتجلى في عملية الإدارة بالأهداف يحقق جوًّا صحيًّا من التفاهم والتعارف والتآخي والتكافل والتعاون، وهذا كله من أهم المقاصد الشرعية للإسلام الذي شرع من التدابير الشرعية العشرات بل المئات من أجل تحقيق هذا الهدف، وحسبنا قول الله تعالى: (إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ) (الحجرات: 10)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمّى»(2).
الشعور بالانتماء وبذل ما في الوسع؛ حيث إن المشاركة والتفكير في وضع الأهداف بشكل مشترك، يُشعر العاملين بالانتماء للمنظمة، والحرص عليها، ومن ثم بذل كل ما في الوسع لتحقيق ما تم التوصل إليه من غايات، والاتفاق عليه من أهداف، وهو ما يحقق قيمة كبرى في الإسلام هي قيمة «الإتقان في العمل»، ولا شك أن العمل على تحقيقه من مقاصد الإسلام، وهو ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ إذا عملَ أحدُكمْ عملًا أنْ يتقنَهُ»(3).
تقليل المشكلات وتفجير الطاقات وتسريع الإنجاز، فإن تحديد المقاصد أو الأهداف في البداية يقلل الاختلاف، ومن ثم يقلل المشكلات، ويوسع المشترك الإنساني والعملي بين الأفراد، ويجعلهم أكثر قدرة على الإبداع والتفكير في اختيار الوسائل والمناهج والآليات في العمل، وهذا كله يؤدي إلى سرعة الإنجاز، وتقليل الوقت والجهد والمال في سبيل الوصول للأهداف، وهذا عين ما يقوم به العمل المقاصدي والتفكير المقاصدي؛ فإن رعايته وتحكيمه يقلل من الخلاف بين المجتهدين، وهذا ما قرره علماء مقاصد الشريعة، كما أن تقليل المشكلات وإطلاق الطاقات واكتشاف المواهب وتسريع الإنجاز مقصود شرعًا.
___________________________
(1) هذه النقاط منقولة عن كتاب «دليلك في الإدارة بالأهداف»، لعلي محمد عبدالوهاب: 8-9. معهد الإدارة العامة. الرياض. 1980م، والربط بعدها مع الفكر المقاصدي ومقاصد الشرعية من عمل الكاتب.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، بسندهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(3) أخرجه السويطي في الجامع الصغير (1855)، وأورده الألباني في صحيح الجامع (1880).