لا تخلو أمة من الأمم من اتخاذ أيام معينة في العام أعيادًا لها، تُظهر فيها فرحتها وبهجتها وزينتها، وهذه الأعياد قد تكون دينية بحتة تخليدًا لأحداث تاريخية، وقد تكون فصلية، مثل أعياد النيروز، وشم النسيم.
وقد اختار موسى الكليم عليه السلام عيدًا للمصريين يكونون فيه فارغين من الأشغال كي يجتمعوا فيه ليروا نتيجة التنافس بين موسى من جهة وسحرة فرعون من جهة أخرى؛ فقال: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) (طه: 59)، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، يتزينون ويجتمعون فيه جميعهم(1).
ورب الإسلام لعلمه بطبائع خلقه من البشر واحتياجهم للفرحة والاستراحة جعل لهم أعيادًا يفرحون فيها لا تخلو من طاعة وقربة، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ»(2).
ودونها أحداث يتذكرها الناس لعظمتها سواء أكانت مصائب وهزائم أم انتصارات وأفراح.. إلخ.
فسقوط الأندلس مصيبة كبرى حلت على المسلمين، وكذلك «وعد بلفور» المشؤوم، وإلغاء الخلافة الإسلامية، كلها أحداث يتذكرها الناس كل عام ولا يمكن نسيانها مهما طال بها الزمن.
وهناك أحداث مؤقتة لا تدوم تكون مرتبطة بنظام سياسي معين ملكيًّا كان أو جمهوريًّا؛ كجلوس الملك على العرش، أو ثورة ضد نظام سابق.. إلخ.
وفي بعض الأحيان هناك توسع في استخدام كلمة «عيد»؛ إذ إن النبي ﷺ أطلق على يوم الجمعة لفظ العيد؛ فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»(3).
وقد اختلطت المناسبات الإسلامية بالمجتمع المسلم، وصارت من قواعد وأصول عاداته؛ إذ تجد -مثلاً- الفرح بقدوم شهر رمضان في كل المجتمعات الإسلامية، ويظهر ذلك على البيوت والشوارع، وهذا يعكس فرح الناس أنفسهم بذلك، أو الفرح بالمولد النبوي إذ تحتفل المجتمعات بصنع الحلوى بمختلف أشكالها وأنواعها إظهارًا لهذا الفرح، مع مدارسة بعض الأحداث من السيرة، وإنشاد بعض الأشعار والمدائح النبوية.. إلخ.
وهذا ما لا تجده في الغرب؛ إذ إن دينهم المسيحي وثقافتهم انبثقت منه عادات لهم تختلف تمام الاختلاف عن عادات المسلمين؛ فإذا عاش المسلم في الغرب فإن المجتمع بتقاليده وعاداته لا يساعده على الفرح بمناسباته الإسلامية.
فالذكرى الدينية أو الأحداث الإسلامية عندنا أخذت طابعًا اجتماعيًّا يلتف حوله الناس، وتظهر آثار ذلك على المجتمع.
ولفترة قريبة في مصر كان الآباء أو الإخوة الكبار في «الموسم» -كما كان يُطلق عليه- يزورون بناتهم وأخواتهم المتزوجات حاملين إليهم الأطعمة والطيور أو الأموال، ولا يمكن تجاوز تلك المواسم ولو وصل الأمر بالاقتراض لأداء هذا الفرض الاجتماعي.
وهذا الواجب الاجتماعي يتساوى كون الأب أو الأخ قريبًا أو بعيدًا عن رَحِمه؛ إذ قد يقطع المسافات الطويلة والأسفار البعيدة لزيارة ابنته أو أخته في الموسم، ويا ويل من يقصِّر في ذلك؛ إذ تغضب النساء لذلك أشد الغضب، وقد كانت الفتاوى ببدعية الاحتفال بتلك المناسبات قائمة، لكن الأمة اختارت الفتاوى المبيحة للاحتفال.
وقد كانت الدولة مع الأمة في هذا الاختيار؛ فالدولة -في حد ذاتها- تشارك من خلال الأمراء والسلاطين والملوك والكبراء في تلك الاحتفالات، ويطعمون الناس، ويخرجون ويبرزون إليهم في تلك الاحتفالات.
لكن لما سقطت الدولة التي كانت تحمي الأمة انفتحت الأبواب على مصاريعها للتغريب الذي هجم علينا بعادات خارجة عن نظامنا الديني والاجتماعي، وتزامن مع ذلك علو صوت الاتجاه الذي يرى بدعية تلك المناسبات.
فاجتمع عاملان:
الأول: عامل خارجي وافد بعادات طارئة علينا، تحمل ثقافة الآخر ودينه؛ فالنظام العالمي (المسيحي العلماني) فرض علينا -نحن المسلمين- الاحتفال بأعياد غريبة عنا؛ مرة عيد الحب؛ حيث يلون الشباب كل شيء باللون الأحمر حتى أنابيب المواقد، ومرة عيد الأم؛ فأصبحت الأم تنتظر الملابس والعطور والهدايا من أولادها، وتحزن إن لم يعطها أحد منهم شيئًا، ومرة عيد المرأة بدعوى إعطائها بعض حقوقها المهضومة من قِبَل الرجال، وطبعًا الاحتفال برأس السنة الميلادية (الكريسماس) الذي هو عيد ديني بحت عند النصارى.
وأعيادهم تلك لا تعنينا ولا تمثلنا، وعلى المسلم ألا يكون تابعًا لمن ليسوا على معتقده، لكن للأسف خفتت شيئًا فشيئًا الاحتفالات الإسلامية التي كانت عنوان ثقافتنا وديننا وتراثنا وتقاليدنا وعاداتنا.
الثاني: عامل داخلي شحذ همته ووجه طاقته كلها لمنع تلك الاحتفالات والمناسبات؛ بدعوى أن النبي ﷺ وصحابته والسلف الصالح لم يحتفلوا بذلك، ونجحوا في ذلك نجاحًا ملحوظًا، لكنهم كلّت عزائمهم وضعفت طاقتهم في محاربة العادات الوافدة.
فقد حارب بعض الإسلاميين الاحتفال بالمواسم الإسلامية مثل رأس السنة الهجرية وعاشوراء والمولد النبوي والإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان.. إلخ.
فضعفت تلك الحوادث في القلوب، ولم يعد لها مظاهر في الشوارع كما كانت عليه الحال من قبل، وفي المقابل سكتوا على الوافد فأصبح عندنا عيد الأم وعيد الحب والهالوين.. فقد هدموا في نفوسنا كل غال علينا، وتركونا نهبًا للوافد الغربي.
هذا إلى جانب وبُعد آخر في أن كثرة الدعوى إلى التجديد في كل شيء أورثنا فوضى عامة حتى وصلت للعادات والتقاليد؛ فما عاد هناك اتباع أو احترام للعادات والتقاليد المتوارثة.
فقد غفلوا عن أن الشعوب بطبعها لا يمكن أن تكون جادة عاملة طوال العام، بل تحتاج إلى أيام تفرِّج وتروِّح وترفِّه فيها عن نفسها، وكان المسلمون يجعلون هذه الاحتفالات مؤطرة بمناسبات ومواسم إسلامية، فجاء من جاء وحرَّم كلَّ هذا، وسكت عن الغزو الثقافي القادم من الغرب.
فالحفاظ على المواسم والمناسبات الإسلامية مع عدم الخروج عن الشرع بالمنكرات والبدع حاجة شرعية وفريضة اجتماعية، وإلا الانسلاخ واتباع الغرب.
_________________________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (5/ 300)، وتفسير القرطبي، (11/ 213).
(2) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(12006)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
(3) المرجع السابق، ح(8025)، وحسَّن إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط.