في غضون معركة «طوفان الأقصى» التي تعد عند خبراء الحروب بداية معركة مع المشروع الصهيوني والصليبي الغربي، يحتاج المرء إلى قراءة شمولية تستنكف عن القراءات الغثائية أو القراءات المشتتة التي تكرع من تفكير المطبعين والسردية الصهيونية، وفضلاً عن القراءة الشمولية للأحداث تحتاج خصوصاً المؤسسات والجمعيات والهيئات العاملة لدعم الشعب الفلسطيني وغزة إلى نظرة مستقبلية للأحداث، لتفكر كيف تضع برنامجها السنوي وفق مستقبل المعركة، هل ستطول أم ستتوقف؟ هل تستمر المسيرات والوقفات أم تتوقف أم يخفض عددها؟ هل يزداد الدعم الاجتماعي والجمعوي والطبي والمادي، أم يخفض برنامج الدعم وفق مستقبل المعركة التي يظن البعض أنها تميل إلى صفقة فتوقف الحرب؟
أظن هذا سؤال أغلب المؤسسات والجمعيات العاملة في حقل دعم ونصرة غزة سياسياً أو ميدانياً أو جمعويا ًأو مادياً أو طبياً، تسأل: كيف نضع برنامج المرحلة وفق التحولات في غزة علماً أن مجريات الأحداث تتغير كل يوم أو أسبوع أو شهر؟ وقد يتخبط فريق العمل في تلك الجمعية أو المؤسسة الداعمة لغياب رؤية ناجحة للواقع لتسطير برنامج وفق رؤية واضحة موجهة.
ما وظيفة الجمعيات والمؤسسات في المرحلة؟
رصدنا بعد 10 أشهر عملاً ضخماً للمؤسسات وجمعيات اجتماعية وجمعوية عملت لنصرة ودعم غزة رغم معالم الحصار من الأنظمة العربية المطبعة، شهدنا هيئات وجمعيات ومؤسسات حشدت الشعوب في الشارع وعياً وإبداعاً وفضحاً للتطبيع ودعماً غزة، وشهدنا جمعيات ومؤسسات أخرى عاملة في حقل الإغاثة والطب لإنقاذ أرواح سكان غزة، لكن لا نريد لهذه الحيوية أن تتراجع بسبب قراءة خاطئة للوضع تحيل إلى:
– أن الصفقة قريبة وهناك تفاؤل.
– أن الإبادة الجماعية لم تعد تصل إلى تلك الحدة في القتل والعدد بالعشرات.
– أن الشعب والجمعيات والمتطوعين تعبت وأرهقت أطرهم بسبب دعمهم المتواصل أو بسبب الفتور والملل من طول الأيام دون نتيجة.
هذه أفكار خاطئة لا بد من تصحيح رؤيتنا نحو النصرة برؤية ناجحة منظمة موجهة تنهل من الواقعية.
كيف تتجهز الجمعيات للعام القادم؟
ينبغي للجمعيات والمؤسسات العاملة ألا تنجرف لقراءات ناقصة في تحليل واقع غزة، فالأمر يميل إلى معركة مفتوحة قد تطول زمناً آخر أو صفقة تتأخر أكثر من المطلوب، وهو ما يدفعنا كمؤسسات وجمعيات عاملة لدعم غزة إلى كتابة برنامجنا وفق أفق معركة مفتوحة، بمعنى مرحلة أخرى من دعم سكان غزة من كل المستويات السياسية الطبية المادية الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
أفكار في البرنامج
– تجديد الوعي:
المطلوب توعية الشعب بوجود معركة أخرى مستمرة مع الاحتلال وهي داخل الشعوب، مع التطبيع والصهاينة الذين اخترقوا المجتمع والدولة لتخريب البلاد والشعب، وتوعية الشعب بذلك يدفع إلى نفس آخر في الدعم والنزول للشارع والاحتجاج ولو بعد 10 أشهر من الحراك والنصرة.
– التنويع والإبداع في النصرة:
لا ينبغي للجمعيات والمؤسسات العاملة لدعم غزة من المجال الميداني والسياسي أن تتوقف مسيراتها ووقفاتها وأعمالها المناصرة، فغزة لم تصل إلى صفقة ولم تتوقف الحرب وأهل غزة في حاجة للنصرة، وأميل إلى التنويع في العمل الميداني بين الشارع والإبداع حتى لا تمل النفوس من المسيرات والوقفات، فالإبداع والتنويع في النصرة الميدانية يحقق نتائج كبيرة، فمثلاً المغاربة وصلوا إلى أكثر من 5 آلاف وقفة ومسيرة، ومع ذلك بدؤوا بالإبداع في النصرة من خلال مثلاً لوحات فنية مسرحية، مبادرات تلاميذية لتوعية الشارع، لوحات ميمية معبرة، وقفات مسجدية، ملتقيات داعمة، تحركات فئوية للأطباء والطلبة وأساتذة التعليم.
الهدف المنشود من هذا التنويع هو استمرار الحراك والنصرة في الشارع والميدان السياسي دون تراجع مخل، بل تنويع في النصرة وعمل متوازن يتصف بالجودة والتؤدة، أما الجمعيات والمؤسسات العاملة في حقل الدعم المادي والطبي والاجتماعي عموماً فيلزمها ضبط برنامجها وفق مستقبل المعركة التي لم تتوقف بعد ويحتاج فيها أهل غزة إلى مزيد من النصرة من مختلف المجالات.
التحدي الكبير
التفكير في الاستمرار والصمود في الميدان بمشروع وبرنامج هو التحدي الكبير للمؤسسات والهيئات والجمعيات والقوى الحية في هذه الفترة، فالعدو في غزة وفي الشعوب العربية والإسلامية وفي منطقتنا يستمر في مشروعه الاختراقي التخريبي رغم هزائمه في غزة بكمائن رجال الأنفاق وعلى مستوى حصاره عالمياً واهتراء روايته الصهيونية، والأولى بمؤسساتنا وجمعياتنا العمل على النفس الطويل والإعداد والدعم ونصرة غزة والمقاومة وفق برنامج متدرج، علماً أن واجهة المقاومة والشعوب هي المنتصرة حتى الآن، فالمطلوب الفرح والسرور والتحفز بما تقدمه هذه الجمعيات والمؤسسات منذ 7 أكتوبر، أما التراجع أو الضعف في العمل الميداني والسياسي والاجتماعي والجمعوي فلا يليق بمن هم في جبهة الانتصار والتقدم، والحزن واليأس أو التراجع هو لصيق بالعدو لا الصديق المناصر المنصور.
المؤسسة والجمعية الناجحة
المؤسسة والجمعية الناجحة هي التي تفقه الواقع والميدان في غزة، هي التي تتحفز للعمل حين ترى برؤية جامعة تفوق المقاومة في غزة بسبب جهود رجال الأنفاق، الذين يتحفزون كذلك بسبب استمرار من يدعمهم في الشارع سياسياً أو بمساعدات اجتماعية، أو مادية، أو دعم قانوني، أو طبي أو علمي أو أكاديمي أو اقتصادي.
المؤسسة والجمعية الناجحة هي التي تفهم وتعلم بعلم واقعي أن المقاومة في تقدم، وأن الشعوب تتقدم كذلك في مواجهتنا للتطبيع، وأنها حققت مكاسب كبيرة على مستوى الشارع والدعم الميداني وتراجع التطبيع ومشاريعه وتهاوي الرواية الصهيونية التطبيعية في شعوبنا بعدما كنا نشهد كل شهر أو أسبوع اتفاقية تطبيع، بل هناك عمل ضخم من جمعيات ومؤسسات التي جمعت المساعدات الاجتماعية، أو أرسلت أطرها الطبية أو الجمعوية لخدمة سكان غزة وكله من الشعب إلى الشعب الغزي.
لكن المطلوب من هذه الجهات البناء على إنجازاتها وأعمالها دون تخلف عن الميدان أو تحرك حماسي لشهور، ثم توقف العمل لغياب رؤية عمل أو بسبب رؤية مقطوعة.
المطلوب استثمار هبة الشعوب وقواها وطاقاتها وتحفزها للدعم ونقل هذه القوة من عمل حماسي لفترة إلى عمل بإرادة مستمر وفق برنامج عمل يدوم ولو بعد وجود صفقة وتوقف المعركة، خصوصاً أن المرحلة المقبلة ستكون أصعب مما كان في 7 أكتوبر، والتطرف الصهيوني لن يسمح بهزيمة «الطوفان» ولربما يعود بخبث كبير، لذلك على الجمعيات والمؤسسات والهيئات الإعداد وبناء عملها على رؤية المرحلة وبعدها لتقديم جواب عن سؤال: ما العمل؟
من الحماسة إلى الإرادة
التحدي الكبير للمؤسسات والهيئات والجمعيات والقوى الحية هو خطة مشروع تبني استثمارًا على ما كان من خيرات وبركات في الشارع والميدان السياسي والاجتماعي والجمعوي والطبي والمادي، التحدي الكبير هو خطة تنقل الجماهير من العمل الوجداني إلى العمل الإرادي المستمر دون انقطاع، هناك طاقات ظهرت وأبدعت، هناك أرباب مال وفن وعلوم ومسرح ورياضة وغناء وتواصل اجتماعي وتكنولوجيا وحرفة واختراع.
المطلوب توظيف هذه الطاقات من خلال برامج ومشاريع لإبقاء هذه الإرادة متيقظة حاضرة، فتتحول إلى إرادة خالدة لا حماسة فاترة تنطفئ مع فتور الميدان وطول المعركة، وعلم الإرادة هي تربية نبوية نابعة من مدرسة الوحي والقرآن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم خلق الصبر والرباط على الأمر بإرادة، يقول الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).
التربية المطلوبة
أعظم التربية حين تربط الشعوب بين إرادتها لنصرة لغزة وإرادة وجه الله، غاية تعلم الإرادة هو إبعاد الناس عن الغفلة التي يستغلها المطبع الصهيوني المخرب، فيحول طاقة الناس إلى يأس بسبب ادعاءاته وأكاذيبه، غاية الإرادة هو صناعة جيل قوي كجيل الصحابة رضي الله عنهم، جامع بين الإيمان والعلم والفعل الميداني، دون ذهنية أعرابية تريد مقام الإسلام ودروشة وانكفاء وعزلة في الدين والعبادة دون مقام إيمان يحفز للعمل والنصرة والفعل قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 14).