للشهر الثاني عشر على التوالي، تخوض دولة الكيان الصهيوني حرباً مسعورة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، قتلت فيها ما يزيد على 41 ألف فلسطيني، وجرحت ما يزيد على 150 ألفاً، ودمرت 80% من البيوت والمنازل والبنية التحتية في غزة، ولم تترك مكاناً في غزة إلا دخلته الدبابات الصهيونية وقصفته الطائرات الحربية، وما زالت مستمرة دون توقف، في حين أن أهدافها التي أعلنتها لنهاية الحرب والمتمثلة في القضاء على «حماس»، وإعادة المختطفين، لم تتحقق رغم القوة العسكرية التي استخدمتها والدعم الأمريكي والأوروبي المصحوب بالضوء الأخضر لممارسة الإبادة بحق المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ.
احتلال جزئي
هذه الحرب التي يسعى نتنياهو إلى إطالة أمدها من أجل مصالحة الشخصية، وخوفاً من انهيار ائتلافه اليميني المتطرف المدعوم من سموتريتش، وبن غفير، اللذين يشجعان على استمرار الحرب وبقاء الجيش في غزة واحتلالها عسكرياً، لتحقيق حلمهما في إعادة الاستيطان إلى غزة وتحويلها إلى منطقة أمنية للجيش الصهيوني يمارس فيها عملياته واقتحاماته المستمرة كما الضفة الغربية، والسعي لتهجير سكانها أو إقامة منطقة عازلة في الشمال والسيطرة على محور فيلادلفيا ومعبر رفح في الجنوب ومحور نتساريم في الوسط حتى يخضع كل ما يدخل قطاع غزة إلى تفتيش ورقابة صهيونية، ويصبح القطاع منطقة تحيطها دولة الكيان من كل الجهات وفرض سيطرة أمنية صهيونية كاملة عليه، والقصد من ذلك أن يكون بمقدور الجيش والأمن الصهيوني أن يدخل متى شاء وكيفما شاء، أي بقعة في قطاع غزة، لحماية أمن الدولة الصهيونية.
إن المتتبع للتصريحات والتحليلات الصهيونية يرى أن هناك نية لاحتلال عسكري معين في قطاع غزة، بيد أن معالمه غير واضحة حتى الآن، وما هو الهدف منه، لكن الكل في الدولة الصهيونية يؤكد بأنها لا تريد أن تدير الحياة المدنية للناس في القطاع، وعليه يجب أن يتولى هذه المهمة طرف آخر.
كلفة السيطرة الكاملة
إن هذه الحرب تختلف عن سابقاتها من الحروب التي شنها الجيش الصهيوني في فلسطين والمنطقة، فهذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها دولة الكيان الحرب رسمياً منذ نصف قرن، وأهدافها التي تؤكد الرغبة في تهجير سكان قطاع غزة واحتلاله، والقضاء على المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها وأجنحتها وعلى رأسها «حماس»، و«الجهاد الإسلامي»، بيد أن هذا يتطلب إيجاد سيناريو لإدارة القطاع بعد الحرب إذا أراد الجيش الصهيوني احتلاله فعلياً، حتى وإن تمكن من ذلك فإن قدرته على البقاء في القطاع لمدة طويلة محل شك وذلك للأسباب التالية:
– لطالما مثّل قطاع غزة مشكلة وعبئاً على دولة الكيان، ففصائل المقاومة في القطاع لم تتوقف عن تنفيذ هجمات عليها، وجرب الجيش الصهيوني معها كافة الوسائل لإخضاعها ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، بمعنى أن الحل العسكري لم يؤت ثماره ولم ينفع الحصار الكامل والتضييق الاقتصادي في تمكينها من السيطرة عليه.
– أن غزة بقيت مركزاً للمقاومة نتيجة وجود زخم كبير لحركات المقاومة وتحديدًا حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، حتى بعد توقيع اتفاقية «أوسلو» التي تخلت فيها منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح والمقاومة وأصبحت تصفها بالإرهاب، وبالتالي تبنت نهج السلام مع دولة الكيان وأقامت علاقات التنسيق الأمني التي لم تفلح في إخضاع المقاومة فيها.
– أن ضربات المقاومة الفلسطينية في غزة وحرب الاستنزاف التي فرضتها ضد الجيش الصهيوني في غزة، وعمليات اقتحام المستوطنات فيها وعمليات الدهس والتفجير هي التي فرضت معادلة الانسحاب الصهيوني من غزة عام 2005م، التي نفذها رئيس الوزراء أرئيل شارون وأيدها نتنياهو حينها لاعتبارها الحل الأمثل للخروج من وحل غزة والهروب من جحيمها، وبالتالي إعادة هذه الفكرة إلى الأذهان سيتطلب التفكير ملياً في كل ما سبق ذكره من تحديات كبيرة سيفرضها الاحتلال العسكري مرة أخرى لقطاع غزة، وإعادة السيناريو السابق.
– تصاعد الأزمة الداخلية الصهيونية، غير أن أسوأ ما فيها هو فقدان الرؤية الواضحة لدى صانعي القرار في دولة الكيان تجاه التعامل الأفضل مع قطاع غزة، فليس ثمة رؤية عملية واقعية بشأن اليوم التالي للحرب، وليس ثمة تصور يمكن فرضه لإخضاع المقاومة أو منع «حماس» من السيطرة على القطاع ونزع أسلحتها، ولا لتوفير الأمن لمناطق غلاف غزة.
– الإنهاك الذي يعاني منه الجيش الصهيوني يعطي مؤشرًا على مدى الاضطراب والارتباك الذي تعاني منه المؤسسة السياسية والعسكرية الصهيونية، وهي حالة يرافقها فشل ذريع في أطول حرب يخوضها الجيش في تاريخه، فكيف باحتلال طويل الأمد وبقاء الجيش في غزة في مواجهة حرب استنزاف تفرضها المقاومة في غزة.
– الكلفة الاقتصادية الكبيرة والأموال الباهظة التي ستتكفلها دولة الكيان في حالة احتلال غزة، التي سيفرض عليها إدارة قطاع غزة اقتصادياً وإعادة إعماره كونها لا تقبل بعودة السلطة الفلسطينية لممارسة دورها فيه.
تداعيات خطيرة
لذلك ستسعى دولة الكيان في هذه المرحلة إلى استمرار حربها والسيطرة على شمال قطاع غزة، حتى محور نتساريم، وتهجير سكانها إلى وسط القطاع وإعادة الاستيطان اليهودي فيها وضمها، دون الحاجة إلى إعلان ذلك رسمياً لتجنب المعارضة الدولية والسيطرة والكلفة الاقتصادية واستعادة سيطرة الجيش على المساعدات الإنسانية والدواء والغذاء بدلاً من المنظمات الدولية، والسيطرة من خلال ذلك على حياة الناس، وطرد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، التي ترى فيها مشروعاً معادياً للصهيونية.
وفي وضع كهذا مع استمرار الحرب والقتل والتدمير والنزوح يفترض نتنياهو وشركاؤه بأنه بعد شتاء آخر في الخيام بلا خدمات أساسية، ولا أدنى مقومات للحياة الإنسانية سيدرك مليونا فلسطيني يزدحمون في رفح وخان يونس والمواصي أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم المدمرة، ويفترض أن يحرضهم اليأس ضد المقاومة في غزة وحكم «حماس»، ويدفعهم للثورة في وجهها أو الهجرة الطوعية خارج القطاع.