عانت البشرية من النظريات الوضعية المؤسسة للحضارات المختلفة، حيث أعلنت بعض النظريات أن الحياة كلها جامدة لا تطور فيها، فهي ثابتة على حال واحد وحكم واحد ورؤية واحدة، وقد ظهر هذا في العصور الوسطى في أوروبا، وفي مقابل ذلك خرجت النظريات العلمانية تعلن أن الحياة كلها متطورة، ولا ثبات في أي جانب منها، حتى إنهم أعلنوا أن الإنسان متطور عن الحيوان، وأن البقاء في الحياة لا يكون إلا للأقوياء، وهذه كلها نظريات فاشلة، لأنها لم تراع فطرة الإنسان أو تكوينه.
رؤية الحضارة الإسلامية للثوابت والمتغيرات
تحرص الحضارة الإسلامية على التعامل مع الإنسان بكل مكوناته، فلا تنظر إلى جانبه المادي دون الروحي أو العكس، كما لا تنظر إلى جانبه الفردي دون الجماعي أو العكس، كما لا تنظر إلى جانبه الدنيوي دون الأخروي أو العكس، بل إنها تنظر إليه نظرة تشمل كل هذا وزيادة، لأن النظرة الشمولية للإنسان والحرص على تلبيتها كاملة من شأنها أن تسهم في طمأنينة هذا الإنسان وإشباع حاجاته ومواكبة التطورات الحاصلة من حوله، من غير إفراط أو تفريط.
وبهذه الرؤية استطاعت الحضارة الإسلامية أن تقدم نموذجاً يحتذى في الجمع بين الثوابت والمتغيرات، فالإنسان يثبت على أصوله وقيمه وغاياته، ويتطور في معارفه وأساليبه وأدواته، ونستطيع أن نحدد مجال الثبات، ومجال المرونة في شريعة الإسلام فنقول: إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب، الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية(1).
الأساس الشرعي للثوابت والمتغيرات في الحضارة الإسلامية
أ- بالنظر إلى مصادر التشريع:
إن الناظر إلى مصادر التشريع في الإسلام، وهي المصادر التي ترتكز عليها الحضارة الإسلامية، يجد أنها تنقسم إلى قسمين؛ قسم أصلي وآخر فرعي، أو قسم نصي وآخر اجتهادي، أو قسم رباني وآخر بشري، فالقسم الأول منها هو القسم الذي يتميز بالثبات الذي لا تطور فيه ولا تغيير، وهو المتعلق بالوحي الإلهي، المتمثل في القرآن والسُّنة، فهذان مصدران ثابتان، بل هما حاكمان على الحياة بأسرها، وقد أكد الإسلام ثباتهما والدعوة إلى الاعتماد عليهما في البناء الحضاري، حيث إن المتمسك بهما لا يمكن له أن يضل أو ينحرف، فقد روى الحاكم في «المستدرك»، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي».
أما القسم الثاني من مصادر التشريع فهو الجانب البشري أو الاجتهادي، وهو القسم المتغير والمتطور بحسب حاجات الناس وتطور الأحداث والأحوال، فإذا حدث شيء جديد لم يرد في القرآن أو السُّنة فإن العلماء يجتهدون فيه ويصدرون فيه حكماً باتفاق بينهم، فهذا هو الإجماع، وهو مصدر للتشريع والحضارة الإسلامية، وإذا كانت هناك مصلحة متحققة الوقوع وضرورية للأمة الإسلامية وتخص عامة الناس فإن التشريع الإسلامي يعتبرها مصدراً للتشريع وركيزة للحضارة، وهو ما يسمى بالمصلحة المرسلة، وهكذا تقوم بقية المصادر الاجتهادية في الإسلام بمواكبة التطور وتلبية الاحتياجات وتحقيق الآمال والطموحات.
ب- بالنظر إلى الأحكام الشرعية:
إن الناظر إلى الشرع الإسلامي يجد أنه قد أصدر أحكاماً ثابتة للعبادات وبعض المعاملات، فلا يمكن للإنسان أن يتجاوزها أو ينكرها، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وإباحة البيع وتحريم الربا وغير ذلك، وهناك أحكام جاء فيها التخيير والتنويع من أجل مراعاة مصالح الإنسان، وهي تعبر عن مجال المتغيرات.
قال ابن القيم: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه، والثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات، وأجناسها، وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة(2).
ويضاف إلى ذلك أن الإسلام ترك لحياة الناس منطقة لم يصدر فيها أحكامه، وهي منطقة الفراغ التشريعي، فهي متروكة لاجتهاد العلماء وأولي الأمر والرأي في الأمة الإسلامية، بما يحقق لها المصلحة ويدفع عنها المفسدة.
قال ابن القيم: إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها(3).
وهكذا نجد أن الحضارة الإسلامية لا تضيق حياة الإنسان بالجمود الذي يمنعها من الحركة والتطور، وفي ذات الوقت لا يطلق لها العنان في السعي وراء التطور، غافلة عن الثوابت التي تعصمها من الانحراف.
مميزات الرؤية الإسلامية للثوابت والمتغيرات
يؤدي التوازن بين الثوابت والمتغيرات في الحضارة الإسلامية إلى عدد من المميزات، مثل:
1- حفظ هوية المجتمع، فبالثبات يستعصي المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى، أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقض في الحقيقة وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة، وبالثبات يستقر التشريع، وتتبادل الثقة، وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة، وأسس راسخة، لا تعصف بها الأهواء، والتقلبات السياسية والاجتماعية، ما بين يوم وآخر، وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن، وتغير أوضاع الحياة، دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية(4).
2- ضبط حركة الحياة، فلا تمضي حياة الناس شاردة على غير هدى، حيث إن وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه الإنسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات، فيزنها بهذا الميزان الثابت؛ ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق(5).
أما المتغير فإنه يفتح الباب أمام كل جديد، ويرحب به ما دام نافعاً، من أجل تحريك الحياة وتطويرها لتناسب عصرها، وتشمل حركة التطوير جوانب الحياة المختلفة؛ سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية ما لم تتعارض مع ثوابت هذا الدين ومقاصده.
3- تحقيق النهوض الحضاري، فالجانب الثابت من التشريع يعد أساساً ترتكز عليه الحضارة الإسلامية، وهو أساس متين، لا تراجع فيه ولا تذبذب، وهو يحافظ على إنسانية الإنسان، ويلبي حاجاته الأساسية في الجانب الروحي والمادي على السواء، أما الجانب المتغير فإنه يقود المسلم إلى اكتشاف ما يظهر له من المواهب والملكات ويقوم بتوظيفها وابتكار ما يناسبها من الأدوات التي تيسر الحياة وتجلب لها مظاهر الكمال والجمال، حتى يحقق المسلم واجب الخلافة وإعمار الأرض، ويسعد بالنعيم في الدنيا والآخرة.
___________________________
(1) الخصائص العامة للإسلام: د. يوسف القرضاوي، ص 200.
(2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 330).
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 2).
(4) الخصائص العامة للإسلام: د. يوسف القرضاوي، ص 203.
(5) خصائص التصور الإسلامي: سيد قطب، ص 76.