بينما كانت بريطانيا وفرنسا متحالفتين في حربهما ضد الصين فيما يعرف بحرب «الأفيون الثانية»، بين عامي 1856 و1860م، التي من خلالها تم فرض تجارة الأفيون قسراً وبالقوة المسلحة على تلك الكتلة البشرية داخل الحدود الصينية وجوارها في شرق آسيا، وبعد تحقق النصر للآلة العسكرية الغربية، لم يكتفِ المنتصرون بفرض شروطهم بإغراق الصين بالأفيون، وجني ثمن تدمير شعب بغية تحقيق الربح؛ بل قاموا بنهب ما وقعت أيديهم عليه من تراث الصين العظيم، وكان من ضحايا النهب «قصر الصيف» التاريخي في بكين وما حواه من كنوز، ثم قاموا بإحراقه.
وبعد العودة المظفرة للدولتين المتزعمتين لنشر الحضارة، سأل صحفي إنجليزي اسمه الكابتن باتلر الأديب الفرنسي فيكتور هوجو (1802 – 1885م) عن شعوره حيال الانتصار المشترك الذي حققته إنجلترا وفرنسا على الصين، فأجاب: «في يوم من الأيام دخل لصان مسلحان إلى قصر الصيف، أحدهما سلبه، والآخر أحرقه، ثم عادا إلى أوروبا ضاحكَين متشابكي الأيدي.
نحن الأوروبيين نحسب أنفسنا متحضرين، والصينيون بالنسبة لنا هم الهمجيون، وهذا ما فعلته الحضارة بالهمجية».
موقف واحد أفسد على هؤلاء الهمج وجماهيرهم الغافلة مشهد أقواس النصر المنصوبة، وعروض الفِرَق العسكرية وموسيقاها وأغانيها الحماسية، ووعود الرخاء المنتظرة، وأفسد روايتهم السخيفة بادعاء التحضُّر أمام الهمجية، واستحق تخليد ذكراه، وأن يضع الصينيون لفيكتور هوجو تمثالاً أمام قصر الصيف بعد ترميمه.
استحضرتُ هذا الموقف وأنا أتابع المواقف المشرفة لثلة من الفنانين المشاركين في مهرجان البندقية؛ ففي المهرجان السينمائي الشهير الذي عقد دورته الحادية والثمانين بتاريخ 28/ 8/ 2024م حاول الصهاينة اختراق المهرجان بفيلمين يروجان للرواية «الإسرائيلية» بتبرير الإبادة الجماعية في غزة، فقام 300 سينمائي بالتوقيع على عريضة احتجاج ضد عرض أفلام تُجَمِّل صورة الاحتلال «الإسرائيلي»، ونصت على رفض التواطؤ مع نظام الفصل العنصري «الإسرائيلي»، ومعارضة استخدام الفن لتجميل الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وشهد المهرجان تضامن العديد من الفنانين بشتى صور التعبير، وتم تتويج المواقف المشرفة للفنانين الأحرار بالكلمة الشجاعة للمخرجة اليهودية الأمريكية سارة فريدلاند في حفل الختام، وهي تستلم جائزتها حيث أشارت إلى جرائم الإبادة التي تمارسها سلطة الاحتلال، وأشارت إلى مسؤولية العاملين في مجال السينما في استخدام المنصات المؤسسية للتصدي لإفلات «إسرائيل» من العقاب، وأنها متضامنة مع الشعب الفلسطيني من أجل التحرير.
من حظ هؤلاء الفنانين الجميل أنهم لم يكونوا ينتمون لنظم دكتاتورية ليس فيها مكان لفنان لا يُسَبِّح بحمد النظام، ولكنهم أيضاً كانوا يدركون أنهم يعملون في حقل فني تتغلغل فيه أصابع جماعات الضغط الصهيونية بقوة؛ ما قد يؤثر على مصالحهم ومستقبلهم الفني، ويعلمون أن لهم جماهير ومحبين قد لا يشاركونهم الموقف نفسه، وكان بوسعهم الصمت والتستر خلف مقولة «الفن للفن»، وحياد الفنان أو المثقف أو المشهور، ووقوفه على مسافة واحدة من جماهيره، لكنهم في النهاية اختاروا أن يتحولوا من مجرد التعاطف مع قضية يرون أنها عادلة، إلى الإعلان عن موقفهم.
ومهما اختلف موقع الإنسان ومكانته في المجتمع والظروف المحيطة به، ومهما كانت القيود والمخاوف والضغوط التي قد يتعرض لها؛ فإنها لا تعيقه عن إعلان موقفه، ونحن أمة لها تراث عظيم وتعاليم واضحة بألا يكون الإنسان «إمعة»؛ أي لا رأي له ولا موقف، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية فردية تقع على كل إنسان.
والله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وضع له العلاج الذي يرفع عنه الحرج؛ العلاج الذي يتناسب مع اختلاف حالات الإنسان من أقصى درجات الضعف إلى أقصى درجات القوة، مع مراعاة اختلاف الظروف المحيطة به، وأعلى طرق العلاج أن يشارك في تغيير المنكر بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه.
«بقلبه»؛ يعني يسعه المقاومة الصامتة، وأقل درجاتها، اعتزال أهل المنكر والعدوان، ومقاطعتهم، ومقاطعة داعميهم، وابتكار كل وسائل المقاومة الصامتة التي تساهم في عزلة أهل الباطل والعدوان، وحصارهم اقتصادياً ومعنوياً وأخلاقياً وقانونياً، ومؤازرة ودعم من يقاوم الباطل والعدوان بكل الوسائل.
فمن لم يعلن موقفاً، ولم يقاوم صامتاً، فقد اختار لنفسه مكاناً؛ إما مع من شارك في المنكر والعدوان ولو بالرضا به والسكوت عنه، أو مع صفوف الإمعات المرصوصة على مقاعد الغافلين.