تروي كتب التاريخ أن خليفة المسلمين هارون الرشيد نظر يوماً إلى سحابة في كبد السماء، وخاطبها بقوله: أيتها السحابةُ، أمطري حيث شئتِ، فسوف يأتيني خراجُك(1).
إن هذه الجملة التي تعد قليلة في المبنى، لكنها في الحقيقة كبيرة في المعنى، وهي تعبر عن مدى التمكن والشعور بالقوة والسيطرة الإسلامية على الكرة الأرضية مهما بلغ اتساعها وامتدادها، فحيثما دفعت الرياح السحابة في أي اتجاه فسوف تمطر في أرض يحكمها المسلمون، وستعود خيراتها إلى خزائن بيت مال المسلمين.
فإذا توقفنا مع هذا القول ودلالاته الواقعية أدركنا أن التمسك بالدين الإسلامي قد أدى إلى بسط سلطانه ونشر خيراته في ربوع الأرض، فكيف تحقق ذلك؟ وهل في التمسك بالإسلام ما يمكن أن يصل بنا إلى هذا النمو الاقتصادي المزهر؟ والجواب: نعم، ويظهر ذلك فيما يأتي:
أولاً: الإسلام يدعو إلى العمل العمراني:
إن الناظر في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض لإصلاحها وعمارتها وإقامة الحق فيها، فقد وذلك في قوله: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)؛ أي خلقكم لعمارتها، وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها(2).
ففي هذا دعوة إلى العمران، بل إنه تعالى أوضح أنه مكّن الإنسان في الأرض وجعل له فيها ما ييسر معاشه، حيث قال عز وجل: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف: 10)؛ أي يسرنا لكم السيطرة على الأرض عن طريق تعميرها وتنميتها.
ودعانا الله تعالى بعد الانتهاء من الصلاة إلى الانتشار في الأرض والاكتساب فيها، حيث قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10).
ولأهمية العمل العمراني والسعي لكسب العيش؛ سوَّى الإسلام بين المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية، والساعين من أجل الرزق وفي سبيل النشاط الاقتصادي، ويظهر هذا في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل: 20).
ففي هذه الآيات القرآنية المتعددة ما يؤكد أن الإسلام يدعو إلى العمل والسعي لكسب الرزق وتحقيق التنمية والوفرة الاقتصادية، فمن قام بذلك فقد استجاب لأمر الله تعالى وفاز بالأجر والثواب، ومن تخلف فقد عصى وينتظر العقاب، فإذا تأملنا حال المسلم وهو يستمع إلى هذه الأوامر فإننا لا نملك إلا أن نقول: إن المسلم يندفع إلى العمل والعمران والرخاء الاقتصادي من منطلق إيماني تعبدي، يرجو به رضا الله تعالى.
ثانياً: التمسك بالدين يحافظ على أخلاقيات التنمية الاقتصادية:
يوجب الإسلام على الناس أن يتمسكوا بالقيم التي تسهم في البناء الاقتصادي القوي، الذي يحقق لأتباعه الكفاية والرفاهية، مثل: إتقان العمل، وتحسين الإنتاج كماً وكيفاً، فقد اعتبر الإسلام ذلك أمانة وقربة إلى الله تعالى، يقول تعالى: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 93)، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24)، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170)، (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 56)، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف: 30).
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إتقان العمل، ففي صحيح الجامع عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ».
كما دعا الإسلام إلى العمل المستمر والمداومة على الإنتاج حتى وإن لم يكن صاحب العمل مستفيداً من ذلك، فإنه مأجور به عند الله تعالى، فقد أخرج البخاري، ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يَزْرَعُ زَرْعًا فيَأْكُلُ منه طيرٌ ولا إنسانٌ إلا كان له به صدقةً».
بل إن الإسلام أكد أن عمل المسلم في جانب الاقتصاد مستمر حتى وإن أشرف على الموت، فإذا استطاع وهو في هذه الحالة أن يبذل عملاً يحقق الرفاهية لغيره فليفعل، فقد أخرج البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ ألا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها».
فهذه كلها أخلاقيات وواجبات تسهم في تحقيق الرخاء الاقتصادي، فإذا تمسك المسلم بدينه فإنه يندفع إلى فعلها من أجل إرضاء ربه أولاً ثم خدمة نفسه وأمته.
ثالثاً: التمسك بالدين يعالج معوقات التنمية الاقتصادية:
لا تخلو التنمية الاقتصادية من معوقات ومهددات تعرقل سيرها وتضعف من إنتاجها، وقد حث الإسلام أتباعه على التخلي عن هذه المعوقات ومواجهتها، حيث منع الإسلام الإفساد في الأرض، ونهى عن السرقة والغش والرشوة والإسراف وغيرها من سيئ الأخلاق، فقد وصف الله تعالى عباده بالاعتدال فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، ونهى عن الإسراف والتبذير فقال: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
كما نهى الله تعالى عن تمكين السفهاء من المال وإهداره، فقال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء: 5).
إن هذه التوجيهات من شأنها أن تحفظ للنشاط الاقتصادي قيمته، وتسهم في تحقيق وفرته ورفاهيته.
______________________
(1) ذكريات: علي الطنطاوي (3/ 303)، وانظر: وحي القلم: الرافعي (2/ 18).
(2) تفسير القرطبي (9/ 56).