بعد أشهر قليلة فقط من الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا التي تراجع فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم لأول مرة منذ تأسيسه خلف منافسه حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، كثّف الأخير مطالباته بتبكير الانتخابات الرئاسية والتشريعية المفترض تنظيمها عام 2028م.
كان الحزب أكد بعد ظهور نتائج الانتخابات المحلية في مارس الماضي، التي تقدم فيها لأول مرة على العدالة والتنمية محتفظاً برئاسة بلديات أهم المدن التركية مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وغيرها الكثير، على أنه لن يطالب بتبكير الانتخابات، وأنه سيدعم فكرة الاستقرار السياسي بالبلاد في السنوات المقبلة كشرط أساسي لمعالجة المشكلات المزمنة فيها، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية المتراجعة.
من ضمن أهم الأسباب التي دفعت الحزب المعارض لتغيير موقفه والعودة للمطالبة بتبكير الانتخابات ممارسة الضغط السياسي على الحزب الحاكم، من باب أنه غير ناجح في حل المشكلات الاقتصادية، وغير قادر على حكم البلاد، وهو هنا يقدم سردية مفادها أن نتائج الانتخابات المحلية تعني أن الشارع التركي لم يعد يريد الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه في قيادة البلاد، وأنه يريد قيادة جديدة.
من ضمن الأسباب كذلك تحقيق حضور ومكاسب في المشهد السياسي الداخلي، على مستوى الحزب أولاً ثم على مستوى البلاد، لا سيما أن الحزب المعارض فيه تيارات متنافسة ومتصارعة، وقد تواجهت في المؤتمر العام الأخير ليصبح أوزجور أوزال رئيسه الجديد بعد كليجدار أوغلو، الذي أعلن مؤخراً عن عودته للحياة السياسية بتصريحات ومشاركات إعلامية لافتة.
الحزب الحاكم يعترف بدلالات الانتخابات الأخيرة لكنه لا يرى فيها رغبة بتغيير النظام أو القيادة السياسية
كما أن الحزب المعارض يريد أن يستثمر بعض الخلافات المفترضة أو المحتملة بين الحزبين المكوّنين لتحالف الجمهور الحاكم؛ العدالة والتنمية والحركة القومية، إذ إن تماسك التحالف الأخير إحدى أهم ركائز الاستقرار وعدم الذهاب لتبكير الانتخابات بالنظر للخريطة الحزبية في البرلمان التركي.
في المقابل، ينفي العدالة والتنمية أي خلافات جوهرية مع الحركة القومية، ويؤكد متانة التحالف معه، وأن استمراره قرار إستراتيجي له وللرئيس أردوغان، ويتحدث الأخير –عن عمد فيما يبدو– في عدة مناسبات وأحداث داخلية وخارجية باسم التحالف وليس فقط باسم الرئاسة أو الحكومة أو حزب العدالة والتنمية.
كما أنه ينفي سردية الشعب الجمهوري بأن الشعب يريد تغيير نظام الحكم و/أو الحزب الحاكم، إذ إن الانتخابات الأخيرة كانت محلية مختصة بالخدمات البلدية، وهذا ما صوّت عليه الناس، أما حين انتخبوا رئيس البلاد والبرلمان قبل ذلك بـ10 أشهر فقد جددوا للرئيس أردوغان عهدة رئاسية جديدة وحافظوا لتحالف الجمهور على أغلبية البرلمان.
ولا ينفي العدالة والتنمية أن هناك تحفظات كثيرة للشعب ومشكلات يريد حلها، ولذلك فقد ضمّن تصويته في الانتخابات المحلية الأخيرة تحفظات ورسائل سياسية، قال أردوغان بنفسه: إنه فهمها، وإن الحزب والحكومة سيعملان على أساسها في الفترة القادمة، معترفاً بوجود أخطاء وأزمة ثقة بينه وبين المواطن.
وعليه، يعترف العدالة والتنمية بدلالات الانتخابات الأخيرة، لكنه لا يرى أنها تتضمن طلباً أو رغبة بتغيير النظام السياسي أو القيادة السياسية للبلاد، وهو محق في ذلك.
من زاوية ثانية، تدرك المعارضة أنها لا تملك قرار تبكير الانتخابات التي تطالب به، فمن حيث المبدأ، يُذهب لهذا الخيار في حالات استثنائية وصعبة غير قائمة حالياً في تركيا، كما أن الرئيس والبرلمان لا يحتاجان لتجديد الشرعية بصندوق انتخاب جديد، لا سيما في ظل النظام الرئاسي المطبق في البلاد، ومن ناحية عملية؛ فإن من يحق له اتخاذ قرار تبكير الانتخابات هو الرئيس (أردوغان في هذه الحالة) وأغلبية 60% من أعضاء البرلمان الذي يشكل تحالف الجمهور –وليس المعارضة– أغلبية مريحة فيه.
يعني ذلك، عملياً، أن قرار تبكير الانتخابات بيد الرئيس أردوغان وتحالفه، وهو بالتأكيد لن يذهب اليوم لقرار من هذا النوع، أولاً لانتفاء الحاجة له كما سلف، وثانياً لأن السياق لا يحتمل ذلك، إذ يريد الرئيس مع حكومته الاستمرار في معالجة الأوضاع الاقتصادية، ويرى وزيره المفوّض بالملفات الاقتصادية (وزير المالية محمد شيمشك) أن ثمار خطته الاقتصادية والمالية بدأت بالظهور بشكل تدريجي وبطيء، وبالتأكيد لن يذهب الرئيس أردوغان لقرار تبكير الانتخابات قبل أن تصل الخطة الاقتصادية لمرحلة إيجابية وملموسة بالنسبة للمواطن ورجل الشارع في حياته اليومية.
«العدالة والتنمية» والرئيس أردوغان سيُبقيان تبكير الانتخابات خياراً قائماً لكنه مؤجل بالمرحلة الحالية
لا يعني كل ما سبق أن التفكير بتبكير الانتخابات ليس موجوداً بالمرة، لكنه ليس حاضراً اليوم في ذهن صانع القرار في البلاد، على أنه خيار سيبقى قائماً على الطاولة وفي اليد في حال جدّت ظروف سياسية أو اقتصادية ما، ولكن أيضاً لسبب آخر يبدو في غاية الأهمية للعدالة والتنمية؛ ذلك أن هذه هي العهدة الرئاسية الأخيرة للرئيس أردوغان دستورياً، ولأن الحزب لا يملك خياراً آخر للانتخابات الرئاسية المقبلة، ولا يتصور أن يقوده ويرأس البلاد شخص آخر في وجود أردوغان –الذي ما زال يراه قادراً على العطاء– فهو يرغب بترشيحه مرة أخرى.
ثمة طريقتان لتحقيق ذلك؛ أولاً صياغة دستور جديد للبلاد أو تعديل دستوري واسع يشمل إمكانية ترشيح أردوغان مجدداً من باب «تصفير العداد» الذي عادة ما يصاحب الدساتير الجديدة، لكنه خيار صعب ومتعسر في الوقت الحالي.
أما الطريقة الثانية فهي دعوة البرلمان لتبكير الانتخابات، بموافقة 60% من أعضائه (360 نائباً من أصل 600) وفق نص الدستور الحالي، ورغم أن تحالف الجمهور لا يملك هذه النسبة حالياً لكنه قريب منها ويراهن على إمكانية إقناع بعض نواب المعارضة، وهذه النقطة تحديداً يراهن عليها فيما يبدو رئيس حزب الشعب الجمهوري زعيم المعارضة أوزجور أوزال، الذي عرض على الرئيس التركي دعمه لخيار تبكير الانتخابات عبر البرلمان (وبالتالي إعادة ترشح أردوغان نفسه) على أن تكون الانتخابات في موعد أقصاه خريف 2025م؛ أي في منتصف العهدة الرئاسية والفترة الدستورية الحالية.
في ظل الأوضاع الحالية في البلاد وداخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، ليس من المنتظر أن يذهب الأخير لخيار تبكير الانتخابات، لكنها تبدو خياراً حقيقياً له مع مرور الشهور والسنين واقتراب الاستحقاق الرئاسي المقبل، رغبة الحزب في إعادة ترشيح أردوغان للانتخابات المقبلة عبر عنها صراحة مستشاره للشؤون القانونية وعضو هيئة السياسات القانونية في الرئاسة محمد أوتشوم في مقال مطوّل له مع وكالة «الأناضول» للأنباء، حيث قال: إنه من المنطقي أن يسعى العدالة والتنمية وتحالف الجمهور لتبكير الانتخابات لإعادة ترشيح أردوغان؛ من زاوية خبرته في قيادة البلاد وتأثيره السياسي القوي والرائد عالمياً في كثير من القضايا.
ولذلك نقول: إنه برغم دعوات المعارض ومحاولاتها الضغط فهي لا تملك القرار لا دستورياً ولا واقعياً، أما بالنسبة للعدالة والتنمية والرئيس أردوغان فتبكير الانتخابات سيبقى خياراً قائماً ووجيهاً، لكنه مؤجل في المرحلة الحالية، على الأقل ليس قبل السنتين القادمتين.