مصالحنا تحدّدها تجاربنا.. وتنطلق من فكرة مركزية.
ويرغب البعض أن نخرج من ضيق الاعتداد الصلب إلى سعة التقدير المصلحي، وذلك صواب يحتاج التدقيق، فإن التوسع ينبغي أن يكون وفق مفاد الفقه، وفقهاء «حماس» و«الجهاد العراقي» أجرأ الناس في الموازنات والنظرات النسبية، وجولاتهم عريضة في ميادين الإفتاء المصلحي، ولكن طريقة الفقهاء أجمعين أن يكون هناك التزام بمفاد التجريب، وهو حتم من بعد التزام النص الشرعي، ومفاد التجريب قد يكون بعضه مما يستوي فيه البشر، ولكن أكثره إنما هو فهم إيماني يحتكره المؤمن ولا يقترب منه شرقي وغربي، وبعضه إلهام يخص الله به المخلصين الأتقياء، لذلك يجفل المفتي الجهادي من تهورٍ، ومن سذاجة، ومن ثقةٍ بكافر، ومن التِماس خيرٍ لدى ظالم وإن كان مسلماً، ومن قسوةِ قلب واختلاط نية لدى حليف وإن كان مقاتلاً أو معارضاً للعولمة.
والقيادي المسلم يُشفق لدمعة يتيم، وآهة أرملة، وولولة أُم، لكنه يُدرك أن حكمة الله في جعل البشر يتدافعون ويتحاربون من أجل رفع الفساد في الأرض: تقتضي الإذعان لحقائق الأذى، وأن الأمل يستلزم الألم، و«حماس» لن تبيع تراث الدعوة في الفكر والعفاف والنقاء والصفاء جزافاً، وهي الكريمة أخت الحملات الجهادية الكريمة، ولكنها البخيلة برصيدها من المكرمات لا تـُبذره، وهي تجاهد مع صفوف جهاد أخرى كريمة لا تدّعي احتكار حق دونها، ولكنها اشترطت شروطاً جهاراً نهاراً، وينبغي أن يتعامل المتعامل مع تصورها الجهادي الكامل دون أن يتجزأ، فإن الابتسارَ انتحار.
وهذا التصور يقوم على فكرة مركزية في تخطيطها ينبغي أن يفهمها الجندي المقاتل كمثل فهم القيادي لها:
أن فقه «حماس» يقصد تأخير الصلح والسلام والتطبيع مع «إسرائيل» أطول فترة، وإلى حين أن يُتاح تأسيس دولة إسلامية أو مجموعة دول إسلامية تـتولى القضية الفلسطينية بإخلاص وشجاعة، وفراسة «حماس» في ذلك صحيحة، وجاءت قضية العراق الجهادية ببرهان صدقها، فإنّ «إسرائيل» إنما تحيا بكفالة أمريكا وتطوعها لحمايتها، وضربات الجهاد العراقي توشك أن ترغم أمريكا على الانسحاب، وفي دارها تلاوم شديد قد يُطّور الانسحاب إلى خطة انكفاء أمريكي عام ربما يتوسع حتى يصل درجة التخلّي عن «إسرائيل»، فتكون نهاية «إسرائيل» متصورة، وقد بدا الموقف الأوروبي يميل لمثل ذلك، وللصين والشرق وروسيا انشغال بالخروج من شِـباك العولمة الأمريكية، ومن ثم يُـتاح لدولة إسلامية أو دولة مخلصين أن تستثمر ظرف ضعف الظهير العالمي لـ«إسرائيل» يوماً ما لتصول جمهرة مؤمنة صولتها لإزالة دولة «إسرائيل»، والتطور السياسي الذي تشهده البلاد العربية والعالم الإسلامي يوحي بصيرورة الأمور إلى أيادٍ نظيفة، وقد أفلست الحكومات والأحزاب، وشاعت الصحوة الإسلامية، ومارست السياسة، وأتقنت الجهاد، وجاء الاحتلال الأمريكي للعراق ليوقظ الطاقات الإسلامية من سُباتها، ويفك الخطط من عِقالها، ويوجه أحاسيس الجهاد نحو عليائها، وقراءة المستقبل تحتمل تصديق الأحلام، وتكمن قرائن في وُعود الدّين، ومن كل ذلك يتشكل «مذهب حماس»، وبحوث الفكر الإسلامي تملأ الأسماع، ومشاهد الزحف تملأ الأبصار، وتـتناقلها الفضائيات، وبصبرِ بضع سنين أخرى تمتلئ القلوب بثقة ووعي وأفراح.
النصر وليد المنهجية… والأنـاة
وتجبه المجاهد الريادي دوماً تناقضات في تصرفات الفصائل السياسية والجهادية، وتكون في بعض الأحيان صعبة التأويل، ولا يمكن تخريجها وفق موازين الفقه وقواعد التخطيط، وتكون إلى الغموض أقرب، وتلك طبيعة في الحياة الإنسانية لا تبرأ منها شخصيات العاملين، ولمثلها رشّح الخليفة المأمونُ الأنــاةَ أن تكون مقدمة لما يرجو من وضوح وقرار صائب، فقال لعبد الله بن طاهر رئيس شرطته:
«تـَثـَبـّتْ، فإن الله عز وجل قد قطع عُذر العجول بما يُمكنه من التثبّت، وأوجب الحُجة على القلِق بما بصَّره من فضل الأناة»(1).
وهي جملة قالها في سياق رقابته الإدارية اليومية، لكنها رسخت كحكمة سياسية وتخطيطية رفيعة المبنى والمعنى، والدعاة المسلمون والمجاهدون أولى من يجددها اليوم، وأن تشتهر عنهم رَويّة وإصغاء بالحسنى وتأملات عند المشاكل وتضارب القول والمفاد والمواقف والبيانات والمناهج، فإن هذه الحكمة تندبهم إلى أن يسمعوا بعقولهم وقلوبهم لا بآذانهم، وما ينبغي أن يستفزهم إغراب مُغرب فيخرجوا إلى ردود فعل سريعة تزيد الأمرَ التباساً، وإنما تكون لهم محاكمات الحكيم الذي يتفكر ساعة قبل أن ينطق، وأما الجفلات واللسان اللاذع فهي شغل الذي لا تعقله أعراف وآداب الأداء الجهادي والدعوي، ولم يتفهم قواعد العدل والقضاء، ولم تطب نفسه بوداعة الأساليب التربوية، وهذه الحكمة المأمونية كما أنها تهذيب لنا نحن أهل الإيمان، فإنها تحذير أيضاً للعجول والحاسد والمنافس، ولكل من يضيق صَدُره عندما يرى نجاح رجال الصحوة الإسلامية، والشواهد الحيوية كثيرة الإشارة إلى أن مقدمات بعض الفتن والمشاكل المؤخرة لنيل الأمة مصالحها إنما كمنت في تصرفٍ ظالمٍ وتزويري جنح إليه صاحبُ سلطةٍ عجول يتجنب الرويّة ويحتكر الحقوق، فتميل النفوس المظلومة إلى الرد والعناد والتحدي، فتكون مشكلة تدلف منها أخلاط وشوائب وأسواء، ورائد السلامة والمصلحة العامة يلعن الشيطان ويلوذ أولاً بركن علم النفس الإيماني، فيعفو ويسامح، فأيما تحرّشٍ بعد ذلك وإسراف في العدوان فإنه يوشك أن يدفع إلى ردود، فإن النفوس قد حباها خالقها بعزةٍ فطرية يزيدها الإيمان توكيداً ويجعلها رأس الشرف، وعندئذ تصدق حكمتنا التجريبية الأولى التي تنصح بأن يكون الاعتداد الصلب هو العلاج لمادة الإزعاج.
_________________
(1) «البصائر» (1/ 226).