قال الباحث والمحلل السياسي محمد الأخرس: إن معركة «طوفان الأقصى» أعادت تعريف الصراع في المنطقة، وأسهمت في كسر العقيدة الأمنية الصهيونية، وخلقت المجال واسعًا أمام استنزاف المشروع الصهيوني؛ وسيسجل التاريخ أن السابع من أكتوبر كان نقطة الانهيار التي بدأ من عندها نهاية تاريخ الاحتلال.
وأوضح أن الدور الأمريكي أسهم في خلق بيئة إقليمية ودولية تحول دون تشكل حالة من الضغط الفاعل لوقف الحرب على غزة، وهو ما أدى مع جملة من العوامل الداخلية والخارجية الأخرى إلى إطالة أمد الحرب.
في هذا الحوار مع الباحث والمحلل السياسي محمد الأخرس، نتطرق لقضايا أخرى، مع الإطلالة على عملية «طوفان الأقصى» من زاوية إستراتيجية، واستشراف رؤية المقاومة في الصمود والانتصار.
كيف ترى عملية «طوفان الأقصى» من زاوية إستراتيجية، وقد أوشك العدوان على غزة أن يتم عامًا كاملاً؟
– يمكن قراءة عملية «طوفان الأقصى» ضمن سياقين؛ أحدهما باعتبارها عملية استباقية ورد فعل لا بد منه للتصدي للمشروع الصهيوني التصفوي الذي ازدادت خطورته على القضية الفلسطينية، بفعل اتفاقات التطبيع، وتقدم أجندات «الصهيونية الدينية» وتحولها لبرامج عمل وسياسات حكومية، واستشعار الاحتلال أنّ الفرصة مواتية لحسم الصراع بالاعتماد على إستراتيجية لفرض الحقائق على الأرض، بما يشمل ذلك تهويد المقدسات الإسلامية واستيطان مزيد من الأراضي، عدا عن القضم التدريجي لمقدرات المقاومة والفتك المستمر بعوامل الصمود للشعب الفلسطيني عبر الحصار والتجويع.
نتنياهو يعمل على استثمار الحرب لإعادة تعريف التوازنات داخليًّا
السياق الثاني هو الحاجة لكسر صعود العدو على الصعيدين الدولي والإقليمي؛ لأن الاحتلال استشعر أن زيادة علوه إقليميًّا سيخدمه لإنهاء القضية الفلسطينية، كما قال نتنياهو في أكثر من مناسبة بأن التطبيع العربي سيؤدي بالضرورة لإنهاء المشكلة الفلسطينية وفق اعتقاده؛ لذلك كانت عملية «طوفان الأقصى» نقطة تحول لإعادة تعريف وضعية الاحتلال في المنطقة، وجعلها عرضة للاستنزاف والاشتباك، بما يؤدي لعزلتها وكسر معادلات الردع التي رعت وحافظت بقاء الكيان طيلة العقود الماضية.
على ضوء ذلك، فإن عملية «طوفان الأقصى» أسهمت في كسر هيبة ومكانة المؤسسة العسكرية داخل دولة الاحتلال؛ التي لطالما كانت بوتقة الصهر التي تذوب فيها الهويات والأيدولوجيات المتباينة والمختلفة، وكان الجيش هو مرتكز الصعود والبقاء بالنسبة للمجتمع الصهيوني؛ لكن انهيار «فرقة غزة» وفشل الجيش في التصدي لهجوم المقاومة وعدم قدرة الاستخبارات على التعامل مع الحدث أسهم في خلق أخاديد عميقة في الوعي الجمعي الصهيوني حول قوة الجيش وقدرته على حمايتهم.
هذا الأمر شجع اليمين الصهيوني على الاشتباك مع المؤسسة العسكرية؛ وهو الأمر الذي يُنذر باتساع نطاق الخلافات الداخلية بما قد يؤدي لتغيير المُسلّمات الكبرى التي تأسس عليها الكيان؛ ولهذا الأمر انعكاسات إستراتيجية مرتبطة بقدرة المجتمع على التعايش معًا في ظل انبعاث جملة من الخلافات، ظهر منها علاقة «الحريديم» بمجتمعهم ومدى التزامهم بالتجنيد.
كما تجدر الإشارة إلى أن قدرة المقاومة على القتال والشعب الفلسطيني على الصمود رغم كل الزخم الناري وحرب الإبادة، يؤكد مرة أخرى عجز المُستعمر عن هزيمة الشعوب الخاضعة للاحتلال بالاعتماد المفرط على القوة العسكرية؛ وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق ارتدادات، سواء على داخل دولة الاحتلال، أو على المستوى الدولي والإقليمي لتعزيز القناعة بحق الفلسطينيين في تحصيل حقوقهم واسترداد أرضهم؛ فهذه المعركة تأتي في إطار المساعي التي تخوضها الشعوب في سبيل تحرير أرضها ونيل حقوقها.
الدور الأمريكي أسهم في خلق بيئة تحول دون الضغط لوقف الحرب
مع أهمية التأكيد على أن الحرب لا تزال مستمرة، ونتائجها لا تزال قيد التشكل بالنظر لاتساع نطاقها الجغرافي والزمني؛ فالحرب ستخلق واقعًا جيوسياسيًّا جديدًا، وهو الأمر الذي ظهرت وتظهر مؤشراته في العمليات العسكرية الحاصلة في جنوب لبنان وفي البحر الأحمر وفي اتساع نطاق الاستهداف الذي تتعرض له دولة الاحتلال؛ عدا عن زيادة عزلتها على المستوى الدولي في ظل انتشار حركات المقاطعة والثورة التي اندلعت على مستوى الإدراك والوعي في كل أنحاء العالم.
لقد أعادت معركة «طوفان الأقصى» تعريف الصراع في المنطقة، وأسهمت في كسر العقيدة الأمنية الصهيونية، وخلقت المجال واسعًا أمام استنزاف المشروع الصهيوني؛ وسيسجل التاريخ أن السابع من أكتوبر كان نقطة الانهيار التي بدأ من عندها نهاية تاريخ الاحتلال.
طالت الحرب على غزة بأكثر من المتوقع، ما السبب في ذلك؟
– توجد جملة من العوامل الداخلية والخارجية أسهمت في إطالة أمد الحرب؛ لكن أبرزها هو الدور الأمريكي الذي أسهم في خلق بيئة إقليمية ودولية تحول دون تشكل حالة من الضغط الفاعل لوقف الحرب على غزة.
عملت الإدارة الأمريكية على تحييد كل مسارات الضغط الإقليمي والدولي؛ وهو ما ظهر في عرقلتها استصدار قرارات في مجلس الأمن تؤدي للضغط على الاحتلال، كما وفرت إدارة جو بايدن بيئة إقليمية مواتية لاستمرارية الحرب من خلال تعزيز عوامل الردع العسكري، ومحاولة تصميم التصعيد الإقليمي بالصورة التي لا تؤدي لإلحاق الضرر بدولة الاحتلال وجبهته الداخلية، وهي محاولات كانت بمثابة شراء وقت لنتنياهو ليواصل عدوانه وجرائمه.
من العوامل الأخرى التي أسهمت في إطالة أمد العدوان، محاولة العدو الحثيثة تحييد دور الجبهات المساندة، لا سيما في الداخل المحتل والضفة الغربية.
قدرة المقاومة على التكيف والمرونة يضمن لها الانتصار
إضافة إلى أن البيئة السياسية داخل دولة الاحتلال غير ناضجة للذهاب لاتفاق وقف إطلاق نار مع المقاومة، رغم توافر كل الأسباب الموضوعية لذلك؛ لأن نتنياهو المُتحالف مع مكونات اليمين الصهيوني يُقدم مصالحه الأيديولوجية والشخصية على ما سواها، ويرى أن بقاء الائتلاف الحاكم يستدعي عدم التفاهم مع المقاومة خلال الظرف الراهن.
إلى أي مدى تتوافر للكيان الصهيوني، لا سيما من حيث النسيج الاجتماعي والتركيبة السياسية، القدرة على الاستمرار في العدوان؟
– بالتوازي مع انسحاب غانتس، وأيزنكوت، من حكومة نتنياهو، وموافقة المؤسسة العسكرية والأمنية على الصفقة مع المقاومة، يمكن القول: إن الحرب على غزة أخذت منحى تجاوز المعادلة السياسية التي كانت قائمة في أشهر الحرب الأولى، حيث يعمل نتنياهو واليمين الصهيوني على استثمار الحرب لصالح إعادة تعريف التوازنات داخل دولة الاحتلال وبما يؤدي لاستئناف مسار التغييرات القضائية التي عملوا عليها قبل السابع من أكتوبر.
لذلك، الحرب دخلت منحى سياسيًّا «إسرائيليًّا» داخليًّا مرتبطًا برؤية أيديولوجية؛ للسيطرة على المؤسسات داخل دولة الاحتلال لصالح اليمين، على الرغم من أن أكثر من 60% من المجتمع الصهيوني يرى أولوية الصفقة مع المقاومة على استمرارية الحرب، وظهرت إرهاصات الغضب الشعبي في إضراب الهستدروت وفي مظاهرات مليونية شهدتها المدن «الإسرائيلية».
قوة المقاومة مستمدة من مجتمعها الصامد الرافض للاستسلام
مع ضرورة استحضار أن الاحتلال يخوض الحرب باعتبارها «وجودية»، ويستطيع تحشيد المجتمع مع كل منعطف أمني، لكن الحرب بصيغتها الحالية تتحول لعامل يفتك في تماسك المجتمع الصهيوني، وتؤدي لخلق انقسامات عميقة داخل المؤسسات الرسمية؛ عدا عن أن استمرارية الحرب تخاطر بوضع الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» أمام تهديدات إقليمية قد تُجبرهم في لحظة معينة على الشعور بخطر أكبر من قدرتهم على التحمل؛ لا سيما إذا تضافر ذلك مع استنزاف اقتصادي وعسكري للاحتلال سواء في قطاع غزة أو خارجه.
وماذا عن استعداد المقاومة؟
– تُدرك المقاومة أنها تخوض حربًا لا متناظرة يسودها اختلال كبير في موازين القوة؛ لكنها تدرك أن بقاءها بالاعتماد على التكيف والمرونة هو ما يضمن لها الانتصار؛ في ظل مسعى واضح لإفشال الحرب على غزة بمنع العدو من تحقيق أهدافه السياسية وإجباره على إنهاء الحرب.
المقاومة قالت على لسان قائدها يحيى السنوار بأنها جاهزة لخوض حرب استنزاف طويلة ضد العدو، من منطلق إدراكها أن هناك حاجة لكسر الإرادة السياسية للعدو بعد أن كسرت إرادته العسكرية.
الاحتلال نفسه يدرك أن المقاومة لا تزال قادرة على المواجهة وعلى إفشال قدرته على خلق واقع سياسي جديد داخل القطاع؛ على اعتبار أن قوة المقاومة مستمدة من مجتمعها الصامد الذي يرفض الاستسلام.
مستقبل الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني، كيف ترصده؟
– للإجابة عن هذا السؤال، من المهم الإشارة إلى طبيعة الواقع الذي حكم الصراع العربي «الإسرائيلي» خلال العقود الماضية، حيث جرى تقليص الصراع عمليًّا بعد اتفاقيتي «كامب ديفيد»، و«وادي عربة»؛ ومن ثم، أراد الاحتلال إنهاءه تمامًا عبر الاتفاقات الإبراهيمية وتوسيعها لتطال أكبر العواصم العربية والإسلامية، هذه الجهود اصطدمت بما حدث في السابع من أكتوبر؛ الذي مثّل انقلابًا على كل هذه المساعي، التي أراد نتنياهو من خلالها تصفية القضية وجعل دولة الاحتلال الطرف الأكثر نفوذًا وهيمنة في المنطقة.
الحاصل حاليًّا أن الصراع العربي «الإسرائيلي» قد جرى استئنافه بصورة كبيرة من خلال انخراط عدة جبهات عربية في الحرب، التي باتت قادرة على استهداف عمق الكيان؛ وهو ما يشير إلى انهيار معادلات الردع التي حافظت على بقاء دولة الاحتلال لسنوات طويلة، وشكّلت حوله هالة كبيرة.
انهيار هذه المعادلات يعني أن إمكانية استهداف العدو ستبقى قائمة، وأن حالة الاشتباك مصيرها أن تتوسع؛ فالاحتلال يعتقد أن معركته «وجودية»، وباتت إستراتيجيته الأمنية والعسكرية أسيرةً لما حصل في السابع من أكتوبر؛ ما يجعل العدو أكثر قلقًا وأكثر خوفًا، وهو ما يعني أنه سيكون مُعرَّضًا لارتكاب الأخطاء بصورة أكبر من الماضي، وسيدفعه ذلك لمزيدٍ من الاستنزاف والاشتباك مع حلفائه وأعدائه.