تعبر العولمة عن نهج ثقافي يميل إلى إكساب كل شيء طابع «معولم»؛ أي منتمٍ إلى العالم، وهي في ذلك قد تقف كمضاد للخصوصية والتخصيص، وإكساب الأشياء طابعاً مميزاً، حيث تسعى العولمة إلى قولبة العالم بأسره في قالب واحد، هذا القالب قد تم اختياره بالأساس من بين قوالب خاصة ثم أضفي عليه سمة «العالمية» قسراً، ومن ثم أصبحت أي قيم أو ثقافات لا تتفق مع هذا القالب العالمي محلية وضيقة ورجعية، وأصبح اللهث وراء اكتساب كافة خصائص ذلك النمط الثقافي نهجاً أساسياً لأي دولة تبتغي اللحاق برغم التقدم وإيجاد موطئ قدم لها بين الأمم.
ويمكن القول: إن العولمة الثقافية قد أتت بديلاً للاحتلال الثقافي في شكله التقليدي، الذي جاء مع الموجات التي أطلق عليها الغرب استعمارية، وادعت بأنها جاءت لتبديد الظلام والجهل والتخلف عن الشعوب وتنويرهم بأحدث وأرقى ما توصل إليه الغرب من مفاهيم وقيم، مع محو متعمد لثقافات وتراث وقيم الأمم المستعمرة، ولما أصبحت القوة العسكرية أقل جاذبية في العصر الراهن، فقد جاءت العولمة كإغراء ثقافي يحاول اجتذاب الأمم طوعاً نحو التبعية الثقافية للنموذج المعرفي الغربي دون إجبار بشكل مباشر أو واضح، وجاءت المناهج التعليمية في القلب من تلك المستهدفات بنظام العولمة الثقافية.
العلم والتعليم والعولمة
وعلى الرغم مما يبدو عليه العلم من عالمية لاعتماده على النظريات والاختراعات والموضوعات التي لا يمكن أن تشوبها انتماءات ذاتية أو قومية، فإن التعليم لا يقتصر على العلوم الطبيعية كما تحاول الحملات الغربية الادعاء، بأن التحيز ضد العلم، ومن ثم تسعى لمحاربة الانتماء الثقافي تحت دعاوى ضبط الموضوعية العلمية؛ وهو ما دفع إلى محاولات دائمة على المستوى التعليمي لإعلاء شأن المواد العلمية التطبيقية والتجريبية على حساب المواد النظرية والثقافية والدينية؛ باعتبار تلك المناهج تقف في وجه التحديث العالمي المرغوب، لأنها بالأساس ترسخ في أذهان الأطفال والناشئة مسائل الخصوصية والهوية الوطنية والقومية والانتماءات الضيقة التي هي محل تهديد للتوجهات العالمية الراغبة في خلق مواطن عالمي تابع وقابل للتدجين ومجرد من كافة الأسلحة التي تُمكنه من إدراك ذاته في مواجهة الآخرين.
وقد كرست حملات العولمة التعليمية جهداً كبيراً لتهميش وإلغاء كافة المواد والنصوص التي قد تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إحياء الذات والانتماءات في مواجهة الذوبان في العالم الذي يهيمن عليه الغرب وثقافته بالأساس، وبدأت تلك الحملات بمبادرات عدة أشهرها مبادرة «الشرق الأوسط الكبير»؛ وهي مبادرة أرادت ابتداء محو مصطلح الوطن العربي الذي طالما كان الوصف الحقيقي لهذه المنطقة، لكنها أرادت خلق تاريخ جديد ينتمي إلى الجغرافيا بالأساس بتسمية تلك البقعة الجغرافية بشكل محايد بعيداً عن الانتماءات الوطنية العربية التي تستبعد «إسرائيل» من ذلك النطاق باعتبارها دولة غير عربية ومصطنعة في ذلك السياق الجغرافي التاريخي العربي.
وانطلاقاً من تلك الحملات الساعية لجعل المصطلحات والمفاهيم الأساسية أكثر حياداً من وجهة نظر الغرب، بدأ تهميش المواد الدينية والتاريخية، ثم تم السعي حثيثاً بعد تهميشها إلى تفريغها من مضمونها وتدمير منهجيتها في صناعة الهوية بتحويلها إلى عدد من الموضوعات غير المترابطة وغير المهمة، تحت دعاوى محاربة الإرهاب الديني والتطرف الفكري.
أخطار عولمة المناهج التعليمية
ورغم ما قد تبدو عليه عولمة المناهج من إغراء جاذب للأجيال الجديدة التي ترى في ذلك فرصة مهمة لتذويب الحواجز وتوسعة الاطلاع على الثقافات الأخرى، ومن ثم تعميق قيم التسامح والاختلاف والتنوع، فإن العولمة إذ تبتغي محو الاختلاف وخنق التنوع وتنميط البشر على نموذج واحد غير قابل للمراجعة أو النقد باعتباره أفضل وأرقى النماذج المعرفية، ومن ثم تتكئ العولمة بهذا الشكل على نظرة استعلائية تحقيرية للآخرين، وهي في الوقت عينة نافية ورافضة لقيم الاختلاف والتنوع نتيجة عنصرية بنيوية متأصلة في رؤيتها المعرفية ونموذجها الثقافي.
ومن ثم، فإن التماهي مع تلك العولمة الثقافية عبر تضمين قيمها وخلاصاتها المعرفية في مناهجنا التعليمية، وحذف كل ما قد يتعارض مع تلك القيم من ثقافتنا الخاصة يؤدي إلى عدد من الأخطار الثقافية والمعرفية الكارثية على عقول الأجيال الجديدة التي هي قوام النهضة ودعامة التقدم العربي المنشود، ومن أبرز تلك الأخطار:
– التبعية: عبر ترسيخ الهيمنة الثقافية الغربية باعتبارها الأفضل والأحدث والأكثر مصداقية، فإن تراجع العقلية النقدية لدى الأجيال الجديدة يصبح أمراً حتمياً، في مقابل نشر التبعية والاستسلام والعجز عن الإبداع.
– تحقير الذات: يخلق الاعتقاد بأفضلية وتفوق النموذج الغربي العالمي اعتقاداً مقابلاً يقوم على الانتقاص من الذات الوطنية والنظرة بشكل سلبي للإطار المعرفي والثقافي الذي تعيش الأجيال الجديدة في رحابها، فينتج عن ذلك تحقيراً للذات ونكوصاً عن الإبداع نتيجة التيقن من الفشل المحتوم بمعزل عن الأخذ بأسباب التقدم الغربية، أو يؤدي في النهاية إلى رغبة ملحة لدى قطاع عريض من الشباب للسفر إلى البلاد الغربية المتقدمة للتخلص من أسر التخلف ومن ثم نزيفاً للعقول والمهارات لمصلحة العالم الغربي.
– التقليد: وانطلاقاً من تبعية طوعية للغرب، تنتشر لدى الأجيال الجديدة رغبة عارمة في التقليد الحرفي والشكلي للغرب باعتبار ذلك الأمل الوحيد للوصول إلى التقدم والازدهار، وهو التقليد الذي يأتي مفرغاً من أي مضمون حقيقي نتيجة تفعيل المناهج التعليمية لمنطق التبعية المطلقة مع محو العقلية النقدية القادرة على الانتقاء من الغرب ما يفيد وترك ما لا يفيد، فينتج العكس تماماً إذ تقتصر الأجيال الجديدة على التقليد في المظاهر والمسائل الضارة مع عجز كامل عن أخذ المنهجيات المهمة التي يمكن أن تسهم في تقدم المجتمعات.
– تشويه الهوية: في ظل جاذبية مطلقة للنظام الغربي يتم ترسيخها في عقول الناشئة من خلال المناهج التعليمية، تتعرض الهوية الوطنية للتشويه الكامل، سواء من خلال محو اللغة العربية –أو اللغات المحلية بشكل عام– وتفريغ المواد الدينية والتاريخية من مضمونها بالكامل لتصبح غير ذات جدوى، ولما كانت اللغة هي بوابة الاطلاع على التراث وفهمه وهضم إمكانات الأمة وحضارتها والوقوف على إسهاماتها الحضارية والعلمية عبر التاريخ، فإن ذلك يستتبع جهلاً تاماً بالذات ويخلق أجيالاً مشوهة غير قادرة على فهم نفسها وموقعها في مواجهة الآخرين.
لقد نجحت الإستراتيجيات التعليمية الغربية القائمة على التقسيم والتخصيص والتجزئة، وفصل الموضوعات عن بعضها بعضاً لتبدو غير مترابطة، في شرذمة مكونات الهوية الوطنية للمجتمعات، ثم لجأت إلى تفريغها من مضمونها لتضمن بقاءها بالشكل الذي يخدم تشويه هوية الأجيال، وخلقت عبر دعايات ضخمة أسطورة التفوق العنصري الغربي عززت من ترسيخ قيم التبعية والتقليد الأعمى واحتقار الذات، ومن ثم نجحت في تدمير مستقبل المجتمعات عبر خلق أجيال شديدة الإعجاب بالغرب الذي أصبح بفضل العولمة هو العالم بأسره، في مواجهة نفور قوي من الذات نتيجة الاعتقاد بمحلية تلك الذات وعدم قدرتها على الوقوف في وجه عولمة تجتاح العالم بأسره.