لعل الأمة تابعت باندهاش شديد حالة الصمود الأسطورية التي قدمها أهل غزة عبر عام كامل من العزة والشرف، ومن احتمال عدوان همجي غير مسبوق، دُمرت فيه البيوت على رؤوس ساكنيها، وهُجر مئات الآلاف إلى مخيمات النزوح، واستمر القصف ليلاً ونهاراً في كل ربوع غزة وإن كان قليل من ذلك كفيلاً بتدمير البنية الاجتماعية لأي مجتمع، وتفكيك أواصر التماسك والتلاحم بين أبنائه، لكن الذي رأيناه في غزة كان مختلفاً تماماً!
فلا تزال روح الصمود والإباء تكسو الوجوه وتملأ العيون، ولا تزال عبارات الأطفال والنساء والشيوخ قبل الرجال تمتاح من معين اللغة عيون الكلمات وترصف من حروفها ينابيع الحكمة، وحري بنا أن نسأل عن سر ذلك الصمود الجماعي البديع!
ولا ريب أن الحالة الإيمانية وحدها هي القادرة على صناعة تلك المعجزة البشرية، والحالة الإيمانية ليست حالة طارئة ولا عابرة إنما هي خط مستدام وجهد متراكم واجتماع على الخير وتعاون على البر والتقوى وعمارة للمساجد وارتباط وثيق بالذكر الحكيم.
لم يكن من فراغ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يضبط العلاقة بين المسلمين والقرآن سماها «صحبة»، فالمسلم هو صاحب القرآن، وفي حديث عبدالله بن عمرو: «يُقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارتقِ ورتِّلْ كما كنت تُرتِّلُ في الدنيا فإنَّ منزلَك عند آخرِ آيةٍ تقرؤُها».
مشروع «صفوة الحفاظ» انضوى فيه آلاف من الشباب يحفظون القرآن ويتقنون الحفظ
يختار الله عز وجل لعباده المؤمنين يوم القيامة من بين مقامات الطاعة كلها، من بين الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد، يختار فقط قراءة القرآن، فيقال يوم القيامة: يا عباد الله المؤمنين، اتخذوا مواقعكم واجلسوا على هيئاتكم التي كنتم تعودتم عليها في الدنيا، واقرؤوا كتاب الله الذي صحبتم في رحلة الحياة!
صفوة الحفاظ
والناظر إلى شعب غزة يجد أن له مع القرآن الكريم حالاً وشأناً عجيباً! فقد تابعنا في السنوات الأخيرة إبداعاً اجتماعياً منقطع النظير في التعامل مع القرآن من خلال مشروع «صفوة الحفاظ» الذي انضوى فيه آلاف من الشباب يحفظون القرآن ويتقنون الحفظ ويديمون المراجعة ثم يجتمعون في بيوت الله فيسردون القرآن من أوله إلى آخره في مجلس واحد.
وقد بلغ عدد من سرد القرآن في العام السابق على تلك الحرب قرابة 1500، وتقول الإحصاءات: إن عدد حفظة القرآن في غزة يزيدون على 50 ألفاً، وهي إشارة إلى حالة إيمانية رفيعة ودليل على حسن ارتباط بالقرآن الكريم وعلى مجتمع أقبل بجمعيته على كتاب الله.
ولعلنا حين نقلب في السيرة النبوية نجد حالة صمود ومبادرة عجيبة في كل المراحل تزيل عنا ذهول ما رأيناه في غزة، وإذا أردنا أن نصرب مثالاً ففي غزة «مؤتة» ما يفي بالغرض، فثمة 3 آلاف ينتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم للخروج من الجزيرة والضرب في بطون الصحراء والتوغل في أرض الروم ومبادأة الجيش الرومي أقوى جيوش الأرض وقتئذ بالقتال، وأكثر المؤرخين على أن عدة الجيش الرومي كانت 200 ألف مقاتل! وتخرج تلك القلة المؤمنة لا يتردد منهم أحد وتجري أول معركة للمسلمين مع الروم، والروم يومئذ في أوج انتصارهم ومجدهم، وقد خرجوا من آخر معاركهم مع الفرس معركة «نينوي» بانتصار ساحق وصلوا فيه إلى قصر كسرى! واستردوا منه الأسلاب التي أخذها الفرس يوم دخلوا كنيسة القيامة في بيت المقدس!
سار الإمبراطور من مقر حكمه في بيزنطه (القسطنطينية) إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه يحوطه عشرات الآلاف من الروم لإعادة صليب كنيسة القيامة إلى مودعه الأول، وفي تلك الأجواء يذهب المسلمون لغزو الروم!
عدد من سرد القرآن الكريم بغزة العام الماضي قرابة 1500 وحفظة القرآن يزيدون على 50 ألفاً
وتدور معركة «مؤتة» وتبلي القلة المؤمنة بلاء لا يصدر إلا من أهل الإيمان لتنتهي معركة الأيام الثلاثة باستشهاد 13 من المسلمين منهم القادة الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، وتنتهي المعركة بقيادة عبقرية من سيف الله المسلول خالد بن الوليد وقد عجز الروم أن يحققوا نصراً يذكر على تلك الثلة المؤمنة!
ويعود المؤمنون مظفرين من غزو الروم في عقر دارهم تأديباً لهم على قتل أحد أعوانهم رجلًا من المسلمين، ويرجعون إلى قاعدتهم في المدينة سالمين غانمين، فيتسامع الناس جميعاً بما فعله أولئك المؤمنون بإمبراطورية بيزنطة!
وهذا الخط من الصمود والمبادرة والقدرة على التضحية خط ممتد في كل الغزوات في زمن النبوة، بل أكاد أزعم أنه خط ممتد في نهر التاريخ الإسلامي العظيم.
ولا منشأ لتلك الحالة الأسطورية إلا بطول الصحبة مع كتاب الله عز وجل ومجالس القرآن وعمارة بيوت الله به، كما قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور).
ليكن القرآن نقطة الانطلاق ومركز النهضة وأساس الوحدة وزاد الأمة ورائدها في ميادين العمل والجهاد
وإن مرحلة ما بعد الحرب في غزة لا تحتاج فقط إلى إعمار البنيان، لكنها تحتاج كذلك إلى الاستمرار في بناء الإنسان، تحتاج إلى حملات جديدة من مشروع «صفوة الحفاظ» وترسيخ أعمق لقيم الإيمان والارتباط بالقرآن لدى شعب قدم للبشرية كلها نموذجاً قيمياً أخلاقياً رفيعاً قلَّ أن ترى البشرية له مثيلاً، وقد أحدث ذلك الصمود المؤمن حالة لافتة من الوعي في العالم كله.
ومن الواجب التفكير والتخطيط في كيفية استدامة هذا الخير العظيم وتوسيع رقعته وحشد طاقات الشباب على مثله، وجمع البيوت المسلمة في غزة على مائدة القرآن الكريم مجدداً.
ومن الواجب أن نقول كذلك: إن غزة قد قدمت وتقدم في ذلك أسوة حسنة لسائر الشعوب المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، فليكن القرآن الكريم نقطة الانطلاق، وليكن مركز النهضة وأساس الوحدة، وليكن زاد الأمة ورائدها في ميادين العمل والجهاد، وليكن القرآن الكريم كما أراده الله عز وجل نور هذه الأمة الذي لا ينطفئ، وهو القائل سبحانه وتعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).