لم يكن للعرب قبل الإسلام كبير عناية بالعلم وأدواته الكبرى وقيمه الراسخة، حيث غلبت عليهم الأمية، وكان من أسباب فخر القبيلة أن يكون فيها قارئ أو كاتب، فيقال: فلان القارئ، وفلان الكاتب، فلما جاء الإسلام؛ وابتدأ الوحي بالأمر العلوي الكريم: «اقرأ»، علا شأن العلماء حتى قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، ففشا العلم، وتخرجت أجيال تركت للعالم منه ميراثاً لا ينضب، واستقرت قيم علمية راسخة، تأكدت جيلاً إثر جيل، ومن هذه القيم:
– إكبار العلماء:
روى الخطيب البغدادي قول علي بن أبي طالب: «من حق العالم عليك أن تسلِّم على القوم عامة، وتخصه دونهم بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرنَّ عنده بيدك، ولا تغمزنَّ بعينيك، ولا تقولن: قال فلان؛ خلافًا لقوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تسارّْ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تُعرِض من طول صحبته؛ فإنما هو بمنزلة النخلة، تنتظر متى يسقط عليك منها شيء».
ولما أرسل عمرُ، عبدَالله بن مسعود إلى الكوفة ليعلم أهلها كتب إليهم: «إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه».
وأعطى عمر بن الخطاب القدوة العملية في إكبار العلماء لأصحابه، إذ أخذ بغرز زيد بن ثابت، حتى رفعه، وقال: هكذا فافعلوا بزيد وأصحاب زيد.
وكان عبدالله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه قال: «سلوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين».
وسأل رجل أبا موسى الأشعري عن مسألة فأجابه فيها، ثم أتى عبدَالله بن مسعود فسأله عنها، فخالف أبا موسى، فأتى الرجل أبا موسى فأخبره بقول ابن مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء وهذا الحَبْرُ بين أظهركم.
وكان عبدالله بن عباس يطلب العلم من كبار الصحابة، فربما وجد أحدهم في قيلولته، فيتوسَّد رداءه على بابه تسفي عليه الريح، حتى يخرج إليه، «يبتغي بذاك طيب نفسه».
وأمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، وقال: «إنا هكذا نصنع بالعلماء»، وأخذ أيضًا بركاب أُبي بن كعب، فقيل له: «أنت ابن عم رسول الله تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟»، فقال: «إنه ينبغي للحَبْر أن يعظَّم ويشرَّف».
وكانوا ينبهون إلى أهمية المتميزين، وعظمة أدوارهم، وحفظ أقدارهم، فها هو ذا عمر بن الخطاب يجالس أصحابه، فيقول لهم: «تمنوا»، فتمنى بعضهم ملء هذه الدار ذهباً ينفقه في سبيل الله، وتمنى آخر لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فينفقه في سبيل الله، فقال عمر: «أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان».
– الحرص على الوقت وشغل الفراغ:
تربى الصحابة على الحرص على أوقاتهم، والضنِّ بشيء من أعمارهم أن يذهب دون فائدة، فها هو ذا عمر يقول: «إنِّي أَكْرَهُ أَنْ أرى أحدكم سَبَهْلَلاً فارغًا، لا فِي عمل دنيا ولا آخِرَةٍ»، وقال ابن مسعود: «إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة».
وكان أبو الدرداء يقول: ابن آدم إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك! وقال ابن مسعود: ما ندمت على شيء، ندمى على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.
وقد أثمر هذا الأسلوب في التعليم، فأخرج جماعات من العلماء الذين أنفقوا أعمارهم في طلب العلم وتعليمه، منهم سعيد بن المسيب الذي قال: إن كنت لأغيب الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
– التثبت من مصادر العلم:
أعطى العلماء آنذاك أمثلة واضحة على التثبت من صحة ما يُروى لهم من العلم، قال ابن عباس: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان التثبت أعظم ما يكون فيما يُروى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد توقف أبو بكر عن قبول حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس في الميراث، حتى قام محمد بن مسلمة فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر.
وتوقف عمر بن الخطاب عن قبول حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، حتى شهد له بصحته أبو سعيد الخدري، وكان عمر لا يقبل الحديث إلا بشاهدين.
وكان علي بن أبي طالب لا يقبل الحديث حتى يستحلف راويه، وقد سمع عليّ بعض الحديث المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في «صفين»، فقال: «قاتلهم الله، أي عصابة بيضاء سوَّدوا! وأي حديث من حديث رسول الله أفسدوا!
وقد كان ذلك دافعًا فيما بعد إلى اتخاذ الإسناد في رواية الحديث، وفي ذلك يقول محمد بن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثُهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
– مزج العلم بالعمل:
كان عليّ يقول لأصحابه: «تعلموا العلم؛ تُعرفوا به، واعملوا به؛ تكونوا من أهله»، وكان يقول: «يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقًا، فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل».
وقال أبو الدرداء: إن أخوف ما أخاف إذا لقيت ربي تبارك وتعالى أن يقول لي: «قد علمت فماذا عملت فيما علمت»، وكان يقول: «ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم؛ ثم لا يعمل؛ سبع مرات»، ويقول لأصحابه: «من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل»، بينما كان معاذ بن جبل يقول لمن حوله: «اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يؤجركم الله بعلمٍ حتى تعملوا».
وقد أثمر هذا الأسلوب في التعليم والتربية، حتى قال الحسن البصري: «كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وهدْيه ولسانه وبصره ويده».
والعمل المطلوب هنا ليس العبادة فحسب، بل العمل الكسبي النافع أيضًا، به يعولون أنفسهم وأهليهم، فقد قال عبدالله بن عمرو بن العاص لمولى له أراد أن يعتكف شهر رمضان في بيت المقدس: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: فارجع، فدع لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت».