تمثل التعددية الثقافية موضوعًا محوريًا لدعاية الغرب لمنظومة العولمة في النقاشات المعاصرة بزعم أن إدارة العلاقات بين المجتمعات المختلفة يجب أن تكون متجاوزة للدين، خاصة في ظل التحديات التي تواجه العالم اليوم من نزاعات عرقية وطائفية، وهو ما يبدو طرحاً براقاً لمن لا يعلم حقيقة الإسلام.
فإذا كان الدين الحق عند الله هو الإسلام، فهو في جوهره دين حضاري جاء لهداية الناس -كل الناس- وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإقامة مجتمع قائم على التعايش بين مختلف الأعراق والثقافات، وهو ما جسده نور الوحي نظرياً من جانب، وتجربة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عملياً من جانب آخر، وعليه فإن التغاضي عن خطورة نموذج العولمة خضوعاً لسطوة آلة الدعاية الغربية هو محض تقصير في حق دين الله وتاريخ نبيه وصحابته.
فالتجربة الإسلامية انتقلت من إقرار حق التعددية نظرياً في القرآن والسُّنة إلى واقع تجسد في تاريخ الأمة عبر القرون، حيث وفر الإسلام إطارًا للتعددية يقوم على مبادئ العدل، التسامح، واحترام الآخر.
ولما كانت التعددية الثقافية تعني في أبسط تعريفاتها قبول وجود أكثر من ثقافة في المجتمع نفسه، مع احترام تلك الثقافات وإتاحة الفرصة لها للعيش والتفاعل بحرية، فقد كان مجتمع المدينة المنورة في العصر النبوي المثال الأكثر تقدمية في زمنه لهذا التعريف، إذ لم يقتصر على قبول التنوع فحسب، بل تعامل مع تعدد الثقافات بوعي حضاري يضمن حقوق الجميع، وبرحمة إنسانية تسهم في تعزيز الوحدة والتضامن الاجتماعي.
ولولا الأسس النظرية في دين الإسلام لما كان لهذا المجتمع أن يفهم مثل هذه القيم فضلاً عن أن يلتزم بتطبيقها، رغم كونه يضم مسلمين ويهوداً، فضلاً عن المهاجرين من مكة وأبناء قبيلتي الأوس والخزرج.
انصهر المسلمون جميعاً في بوتقة الهدي القرآني؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، فعاش اليهود في حرية دينية لم يشهدوا مثلها في أي شتات ذهبوا إليه من بعد موسى عليه السلام، إذ إن التوجيه الإلهي في الآية لا يتناول التنوع الثقافي باعتباره مجرد ظاهرة طبيعية، بل باعتباره جزءاً من حكمة الخلق.
ولذا أوردت السُّنة النبوية الشريفة تعاليم تحث على التسامح والرحمة تجاه الآخرين، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو الدينية، خاصة أهل الكتاب منهم، حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهم خيراً، على النحو الوارد في سنن الترمذي: «من آذى ذمّيًا فأنا خصمه».
ترجمة واقعية
غير أن تجربة الإسلام في التعددية الثقافية لم تكن مجرد إطار نظري منذ يومها الأول، بل ترجمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى حياة واقعية عاشت في ظلها المجتمعات الإسلامية لقرون طويلة لاحقة، لتشهد المدينة المنورة تأسيس أول مجتمع متنوع ثقافياً ودينياً وفق إطار ينظم العلاقة فئاته المختلفة عبر «وثيقة المدينة»، التي تعتبر من أولى الوثائق القانونية التي نظمت التعايش بين أتباع الأديان المختلفة، وضمنت لكل طرف حقوقه وواجباته على أساس أن الإسلام هو الضامن لهذه الحقوق.
ورغم تكرار الانتهاك اليهودي للوثيقة، فإن الأساس القيمي للتعددية الثقافية لدى المجتمعات التي حكمها المسلمون دفعهم إلى احترام هذه التعددية في كل مكان فتحه المسلمون.
ففي العصور التالية لعهد النبوة، استمر تطبيق هذا المبدأ في مختلف الدول الإسلامية، خاصة في نموذج الأندلس، التي تعايش فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود في بيئة من الانفتاح الثقافي والفكري، وأسهم الجميع في إثراء الحياة الثقافية والعلمية هناك.
كانت الأندلس قريبة الشبه بتعددية مجتمع المدينة، مع بعض الاختلافات، ولم يكن التنوع فيها مجرد تعايش سلبي، بل كان تفاعلًا إيجابيًا أدى إلى إثراء الحضارة الإسلامية وتطورها، على النحو الذي ولد مفهوم «الثقافة العالمية» لأول مرة في التاريخ الإنساني، وكان أحد أهم إنجازات حضارة الإسلام.
فالتعددية الثقافية في الإسلام لم تكن مجرد تسامح شكلي، بل امتدت لتشمل التسامح الديني العملي، إذ ضمن الإسلام حرية العقيدة لكل من يعيش تحت حكمه، وأعطى لغير المسلمين حقوقهم في ممارسة شعائرهم بحرية، مصداقاً لقوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256).
وقد كان مفهوم «أهل الذمة» تاريخياً في جوهره مثالاً عملياً على المدى الذي وصلت إليه هذه الحرية، فأهل الكتاب غير ملزمين بالدفاع العسكري، بينما المسلمون ملزمون بالدفاع عنهم في أي بلد يفتحونه.
وكتب الفقه الإسلامي زاخرة بأحكام حقوق غير المسلمين ووجوب حمايتهم، وهي تجربة كان للعالم الحديث أن يستفيد منها لو صدقت النوايا في اتباع الحق، بدلاً من الجحود عبر ادعاء أجوف بأن كل الأديان سواء والزعم بأن أي إطار ديني من شأنه التفرقة بين الناس وإشاعة الظلم فيما بينهم.
إن الاختلاف بين نموذج «العولمة» الغربي وتجربة «العالمية» الإسلامية واضح الجوهر، ففي حين تقوم العولمة على أساس اقتصادي بحت، يهدف إلى توسيع الأسواق وزيادة الأرباح، تنطلق العالمية الإسلامية من رؤية حضارية شاملة تهدف إلى نشر قيم العدل والمساواة.
وبينما تسعى عالمية الإسلام إلى بناء جسور التواصل الثقافي، في إطار نموذج «الوحدة في التنوع»، الذي كان سمة مميزة للتجربة الإسلامية، تميل العولمة الغربية المعاصرة إلى فرض نموذج ثقافي واحد على العالم، هو النموذج الغربي.
لقد حان الوقت لنتجاوز الخطاب الدفاعي في مواجهة آلة الدعاية الغربية ونموذجها العولمي، فديننا قدم أعظم هداية للبشر ويستحق منا تقديمه كنموذج للإنسانية عبر تفنيد زيف الادعاء الغربي بدلاً من الدفاع أمام هجماته.