برحيل الأديب الكبير رفقي بدوي (1950 – 2024م)، تنفرط حبة نادرة من عقد الأصالة، والانتماء والإبداع والفكر والشرف.
ترجع معرفتي به إلى أوائل التسعينيات، تلك الفترة التي كان يغسل فيها يديه من «اللون الأحمر» الذي صبغ المحروسة حينًا من الدهر رفقة عدد كبير من الكتاب والمفكرين والأدباء.
ومضى -في كل ما كتب- يغرد للحق والحرية، وينتصر للعدالة والأصالة، ويسخر من كل ما سوى ذلك.
ولد الكاتب الكبير رفقي عبدالعزيز بدوي حسن، في 2 يوليو عام 1950م، بقرية ميت البيضا، مركز الباجور، محافظة المنوفية، وحصل على ليسانس الآداب، قسم الدراسات الفلسفية عام 1979م، ودبلوم الدراسات الإسلامية عام 1984م، ولديه من الأبناء أحمد، ورضوى، المتخرجين من تجارة الأزهر الشريف.
وهو عضو مجلس إدارة اتحاد كتَّاب مصر، وأمين الصندوق به، لعدة دورات، كما كان المسؤول المالي باتحاد الكتاب العرب، كما كان عضوًا بهيئة تحرير مجلة القصة، ومجلة اتحاد الكتاب، وجمعية الأدباء، إلى جانب عمله كمدير عام التنظيم والتدريب بوزارة الثقافة المصرية.
للأديب الكبير الراحل 10 مجموعات قصصية، و5 روايات، و3 كتب نقدية.
ومئات المقالات الفكرية التي تعدل عشرات الكتب الجادة النافذة:
1- هرمونيا الحزن والعبقرية (مجموعة قصصية) 1977م.
2- أنا ونورا وماعت (رواية) 1978م.
3- هذا ما حدث أولًا (مجموعة قصصية) 1983م.
4- البحث عن حقيقة ما يقال (مجموعة قصصية) 1983م.
5- صباح الحب الجميل (مجموعة قصصية) 1991م.
6- قراءات نصية (دراسات نقدية) 1995م.
7- القابض على الجمر (مجموعة قصصية) 1998م.
8- بياع الحلوين (مجموعة قصصية) 2006م.
9- أرجوحة الوقت (مجموعة قصصية) 2008م.
10- كأس برفكت من فضلك (مجموعة قصصية) 2014م.
11- تمددي بمستحيلي (مجموعة قصصية) 2016م.
12- اللعب على سطور الحكاية، 2019م.
14- نصوص فاصلة (عصف فكري).
15- هكذا أنا (رواية).
اختيرت بعض روايته (أنا ونورا وماعت) ضمن أفضل مائة
لم يسقط القلم من يده، إلا بدخوله الرعاية المركزة بمستشفى الجولف بمصر الجديدة، التي زرته فيها منذ أيام، قبل وداعه رحمة الله عليه.
العمل الأول
نشرت قصته الأولى عام 1973م بمجلة «القصة» المصرية ومجلة «البيان» الكويتية، تلك القصة التي تفجرت حروفها إثر موقف مأساوي، حين ألقت إليه جارته بخطاب أسفل منزله بالشارع، فعجز عن النزول لالتقاطه، كونه كان يعاني أشد المعاناة، عقب عدة جراحات شديدة الألم، كانت قد أجريت له لتجهيز ساقيه المبتورتين، لتركيب ساقين صناعيتين، فاعتملت داخله كل عوامل الحصر الأليم، فكتب قصته الأولى «سأبقى في النافذة»!
ترجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية.
حصل على جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر، وشهادة تقدير من الرئيس السادات في مجال القصة.
كان عضواً أساسياً في كل لجان تحكيم مسابقات القصة والرواية، مشهودًا له بالنزاهة والشجاعة والحياد والحرفية.
حين زيارتي الأخيرة له وجدته وادعاً منيراً، وأخبرت ابنته بذلك، ومزحت معه، إذ كانت لحيته الفضية قد طالت، فقلت له مفاكهاً: «كدا بقيت رسمي»! فابتسم جداً، ثم أخبرني الأطباء أنه يتابع ويسمع ويدرك جيداً، لكن دون تركيز في ردود الفعل.
ربما كان الحادث الأليم الذي تعرض له ذلك الشاب الجميل الموهوب، المقبل على الحياة -رفقي بدوي- حين سقط تحت عجلات الترام يوم 15 فبراير 1964م، فبُترت ساقاه.
ربما كان ذلك هو المنطلق الأول، الذي جعله يحلق في سماوات الحرية دون حساب، ويسخر من كل حد أو قيد يحول بينه وبين ذلك، مهما كانت العواقب.
وكأنه بالشاعر الكبير (إنسان الفصل الخامس) محمود أبي الوفا إذ يقول:
أحب أضحك للدنيا فيمنعني
أن عاقبتني على بعض ابتساماتي
هاج الجواد فعضته شكيمته
شلت أنامل صناع الشكيمات
تمتاز كل كتابات بدوي القصصية والروائية والفكرية، بعمق فلسفي مستغرق، ورونق شعري بديع، وصراحة فكرية موجعة، وتتسم بنيته اللغوية المكثفة، وتجديده الدائم لشكل ولغة وفنية البنية القصصية، وتعميقه لآلياتها، دون اختناق أيديولوجي، أو احتباس مذهبي معين.
كان شعاره الخاص مع نفسه وأصدقائه وجمهوره: «قل له في وشه، ولا تغشه».
لكن لم يكن ليغضب منه أحد، فهو واحد ممن كُتب لهم الحب من الخلق والحق.
من أقواله:
– أمضيت عمري أراوح بين بعضي الذي مات، وبعضي الذي ما زال حياً، والحمد لله أن رأسي ما زال في الجزء الذي ما زال حياً.
– أمضيت عمري محمولاً على ساقين صناعيتين لتظل رأسي عالية دائمًا.
– يجب ألا يكون الالتزام قيداً على المبدع، حتى لا يجعل منه مبدعاً أسيراً.
– تستطيع أن تعرف أي كاتب حقيقي من قراءة عدة أسطر له، مهما غاب اسمه عنها.
– غسلت يدي من «العبيد الحمر»، ولم أكتب حرفاً واحداً، إلا عن قناعة وواجب واعتزاز.
– حفاوتي باللغة لا تقل أبداً عن حفاوتي بالفن القصصي نفسه.
– لم أكن أملك سوي الحلم، الذي أسرفت في تطويعه وتثويره.
– العدوان العلماني على هويتنا وتراثنا، خيانة وعمالة.
– المطر هو الذي ينمي النبات، وليس الرعد.
– واقعنا يجعلنا ندفع ثمن أفكارنا، أكثر مما ندفع ثمن خيبتنا.
– مهما حاولوا دفننا فلن يستطيعوا؛ لأننا خلقنا جذورًا وبذورًا.
وفي يوم الثلاثاء 22 سبتمبر 2024م، مضى رفقي بدوي بعد فترة مرض قصيرة، وبعد عمر أمضاه محمولًا على ساقين صناعيتين، وهو يحمل فوق رأسه خبزًا، تأكل الطير منه.
اللهم ارحمه رحمة واسعة وتقبله في الصالحين، وخالص العزاء لأسرة الفكر والشعر والأدب العربي والإسلامي، في رحيل هذا الكاتب المفكر الحر النبيل.