النبي.. والقيادة بالأهداف
إننا إذا أردنا أن نضرب مثلاً بهذا النوع من القيادة –وما أبعد الفرق بين القائد والمدير!– فلن نجد أعلى ولا أسمى من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ضرب المثل والقدوة في كل مجال، حتى قال الله تعالى فيه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
ففي حياته المكية والمدنية، وما قبل نزول الوحي وما بعده، وفي حالاته جميعاً؛ السلم والحرب، والرضا والغضب، والحب والبغض، والإقدام والإحجام، في كل هذه الحالات وغيرها كان يمثل النموذج والقدوة، والمثال والأسوة؛ حيث حظي بحب أصحابه وارتباطهم به؛ حتى ظن كل واحد منهم أنه الأقرب منه والأحب إليه والأثير لديه.
فقد أخرج البخاري بسنده عن عبدالرحمن بن مل النهدي أبو عثمان أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَمْرَو بنَ العاصِ على جَيْشِ ذاتِ السُّلاسِلِ، قالَ: فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أيُّ النّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قالَ: «عائِشَةُ»، قُلتُ: مِنَ الرِّجالِ؟ قالَ: «أبُوها»، قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «عُمَرُ..»، فَعَدَّ رِجالًا، فَسَكَتُّ مَخافَةَ أنْ يَجْعَلَنِي في آخِرِهِمْ(1).
وأود أن أترك المجال هنا لعلَمين بارزين، من أبرز كُتّاب السيرة النبوية، يجليان لنا هذه الحقيقة، ويبينان لنا مظاهر هذه القيادة العبقرية، وكيف حظيت بهذه المكانة في قلوب الأفراد، وكيف تحلق حولها وأحبها وهابها كلُّ من تعامل معها، وهما الشيخ محمد الغزالي الذي نشر كتابه «فقه السيرة» في خمسينيات القرن العشرين، والشيخ صفي الرحمن المباركفوري الذي نشر كتابه «الرحيق المختوم» في سبعينيات القرن نفسه، وتأثر فيه بأسلوب الغزالي ونقل عنه.
ما قاله الغزالي
في كتابه «فقه السيرة» عقد الشيخ محمد الغزالي فصلاً بعنوان «قيادة تهوي إليها الأفئدة»، قال فيه: «كان محمد صلى الله عليه وسلم أهلاً لأن يُحَب؛ وما تعرف الدنيا رجلاً فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يُعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبدالله، عليه الصلاة والسلام..
إن أضواء الباطن تنضح على الوجه، فتقرأ في أساريره آيات الطهر، وقد ذهب عبدالله يستطلع أخبار هذا الزعيم المهاجر، فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أول ما اطمأن إليه بعد التثبت من أحواله أن هذا ليس بكاذب، والملامح العقلية والخلقية لشخص ما لا تعرف بنظرة خاطفة، ولكن الطابع المادي الذي يضفي على الروح الكبير كثيراً ما يكون عنواناً صادقاً على ما وراءه.
على أن الذين عاشروا محمداً صلى الله عليه وسلم أحبوه إلى حد الهيام، وما يبالغون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يُعشق عادة لم يُرزق بمثلها بشر..
والحق أن التابع المحب شخص فاضل؛ ففي الدنيا كثير من الأخساء الذين إن علوا حقروا من دونهم، وإن دنوا كرهوا من فوقهم! فما تدري متى تخلو نفوسهم من أحاسيس البغضاء والضعة؟ أما عشاق المبادئ المجردة، فما أن يجدوا رجلها المنشود حتى يحيطوا به، وتلمع عيونهم حباً له؛ أي حباً للمبادئ التي حييت فيه وانتصرت به، وما كان ربك ليضيع هذا اليقين ولا أصحابه الأبرار..
هكذا كانت دار الهجرة، لقد أحبت الله، وأحبت رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحب المكين سر انتصارها الرائع للإسلام، ومبعث التضحية عن طيب نفس بكل مرتخص وغال، وقوم يربطهم بقائدهم هذا الإعزاز الهائل، تندكُّ أمام عزائمِهم الأطوادُ الراسية»(2).
ما قاله المباركفوري
من العجيب أن الشيخ صفي الرحمن المباركفوري وضع نفس العنوان الذي وضعه الشيخ الغزالي «قيادة تهوي إليها الأفئدة»، وهو من تأثره به ونقله عنه كما سبقت الإشارة، ولكنه أتى بها في سياق الحديث عن عوامل الصبر والثبات؛ متعجبًا من هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات الذي وصل إليه الصحابة، وكيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة! حيث ذكر السبب الأول: «الإيمان بالله وحده».
ثم كان السبب الثاني أو العامل الثاني: «قيادة تهوي إليها الأفئدة»، قال تحته: «كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل وللبشرية جمعاء- يتمتع من جمال الخلق وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب، وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يعشق لم يرزق بمثلها بشر، وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل، وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه؛ فضلاً عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها..
وكان من أثر هذ الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة»(3).
هذه هي طبيعة القيادة التي جذبت القلوب، ولانت لها الأفئدة، وهفت لها النفوس، حتى ظن كل واحد من الصحابة أنه الأقرب إليه والأثير لديه، واستشرفت مكانها في الجنة، وأنه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يمكّنها من رؤيته في الجنة، والحق أن كلام الشيخين لا يحتاج إلى تعليق، فحسب القارئ أن يقرأ ما قالاه بلا تعليق.
وإن المتأمل لقيادة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقيادته للدولة يجد صفات القيادة بالأهداف، ومقومات القائد الحصيف متجسدة فيه بأعلى درجاتها؛ فهو يُعمل مبدأ الشورى، ويجعل القرار لأصحابه معه، ولا يقطع أمراً دونهم، وينزل على رأيهم حتى لو خالف رأيه؛ حدث هذا في «بدر»، و«أحد»، و«الأحزاب».. وغيرها من المشاهد التي تحققت فيها فوائد القيادة بالأهداف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في كل هذا الفكر المقاصدي ويعمل على تحقيق مقاصد الشريعة، وهذا أمر يحتاج لتناول جديد للسيرة النبوية في ضوء الفكر المقاصدي.
________________________
(1) صحيح البخاري (4358).
(2) فقه السيرة، ص 153-155، طبعة دار الشروق، والتخريجات السابقة في كلام الشيخ الغزالي تعود للشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي خرج أحاديث وروايات كتاب فقه السيرة.
(3) الرحيق المختوم، ص 118-120، طبعة وزارة الأوقاف في قطر. 1428هـ/ 2007م، والهوامش التي أوردناها على نص كلامه من الكتاب نفسه.