إن التخبط الذي تحياه الأمة اليوم في جميع مجالات حياتها، والضعف الذي وصلت إلى أدنى دركاته، حتى أضحت إلى المذلة أقرب منها إلى أي درجة من درجات الكرامة والاعتزاز، لهو رسالة واضحة صارخة، تنادي العقلاء والعلماء والمفكرين والشباب، وكل من يُحسن الانتساب إلى هذه الأمة، ويسعى إلى رقيها ونهضتها وريادتها، أن توقفوا، واسألوا أنفسكم: لماذا نحن في هذا المستنقع؟! لماذا نحن في هذا التفرق؟! لماذا نحن في هذا الهوان؟! لماذا لم يقدم العلماء للأمة حلاً للنهوض من كبوتها؟! ولماذا هذه الكوارث المتنوعة؟!
فلا نكاد ننام على مشكلة في العراق إلا ونصبح على كارثة في اليمن، وعلى مشكلة في مصر ضحى، وكارثة في سورية مساءً.. ومن نقطة ملتهبة هنا إلى حريق هناك، ونحن نلهث لنُلقي بعضاً من المهدئات هنا والمسكنات هناك، حتى تحولت الأمة إلى مؤسسة للإطفاء فقط، ففي كل يوم حريق، وفي كل يوم صراخ، وفي كل يوم جرحى وقتلى ومصابون، حتى ربما تماهى جسد الأمة مع الآلام، حتى أضحى لا يصرخ من كثرة الآلام، وإن قُطعت أجزاء منه، فقد أفقدته آلامه المتكررة الشعور والانتباه، فدخل في غيبوبة لا يعرف كيف يستيقظ منها!
والمشكلة تكمن في عبارة واحدة، أننا أمة بلا رأس، فلكي تعود الأمة إلى مكانتها وتأثيرها، لا بد لها من رأس ينظم حركتها، فرأس الأمة قُطع منذ إسقاط الخلافة، فقد كانت الأمة تحت الخلافة -بصرف النظر عن بعض المؤاخذات- تنعم تحت سلطة تحميها، ومشروع تتبناه، فحافظت على مقدساتها، وعاشت زمناً مرهوبة الجانب، واضحة الهوية، ولما أسقطت الخلافة بعوامل داخلية وأخرى خارجية، أصبحت الأمة أشلاءً وأحزاباً ودويلات وجماعات وتيارات وطوائف!
واشتد الأمر سوءاً بأن تشتت المتفرق، وتجزأ المتجزئ، وتفتت المتفتت، فلم يعد هناك كيان صلب في الأمة، ولن تجد بسهولة أرضاً صلبة تنطلق منها الأمة مرة أخرى انطلاقة فتية.
وأضحى كل تكتل، أو دولة، أو تيار، أو جماعة، أو منظومة.. يقدم نفسه على أنه الرأس، بل تحول بعض الأفراد إلى ادعاء أنهم رؤوس، فزادت الآلام، حتى جاء على الأمة يوم لا خيار لها فيه، فإما أن تنتسب إلى خندق الصهاينة، أو تنتسب إلى خندق الطائفية! وكأنه قُدر لها إلا أن تكون تابعاً مستخدماً، يتحرك بإرادة غيره، ويخدم مشروع غيره، مع الأخذ في الاعتبار، أنه ما من مشروع إلا ويعادي وحدة الأمة وعقيدتها وهويتها!
وزاد الطين بلة أن انحازت بعض الأنظمة السياسية في المنطقة إلى المشروع الصهيوني، وابتعدت عن إرادة شعوبها في عداء هذا المشروع.
وأضحت تفعل في المسلمين تجهيلاً وتقتيلاً وتفريقاً وتغريباً ما لم يكن في استطاعة الاحتلال المباشر أن يفعله، أو أن يحلم به حتى!
فما الحل؟!
لكي تعود الأمة إلى مكانتها اللائقة وهي أمة عابرة للمشاريع، لا بد لها من رأس محرِّك، يضبط حركة الأعضاء داخله، حتى لا يتعدى بعضها على بعض، ويُنسق استخدام إمكاناتها، ويُوحد خط سيرها، ويجمع شتاتها، وأمتنا لا تصلح أن نستورد لها رأساً مصنوعاً في معامل المخابرات الدولية، والأنظمة المعادية للإسلام، إنما يجب أن تكون صناعة قرآنية إسلامية كاملة في منطلقاتها وتطلعاتها وتصوراتها.
والرأس لكي يُصنع لا بد له من مكونات ثلاثة ليكون رأساً بحق:
الأول: المشروع:
الأمة في حاجة إلى مشروع إسلامي جامع، يجمع ولا يفرق، يبنى على قوانين القرآن، وتشريعات الإسلام، وأهل العلم والفكر هم المعنيون بهذا الواجب، فيجب عليهم أن يتحيزوا إلى فئة، ويعيدوا للأمة رسم معالم المشروع الإسلامي، المبني على استشراف مستقبل أمين، لتعيد الأمة تموضعها فيه، وبدون بلورة للمشروع، وتحديد لمعالمه ومراحله ومحدداته، كأي مشروع في عالم الناس، فلا فائدة تُذكر من أنواع الحراك المختلفة، إلا كونها مجرد مسكنات لا تُغيث ملهوفاً، ولا تداوي مريضاً، ولا تُنهض قعيداً، وإذا سألت مائة عالم من علماء المسلمين، أو قيادات الحركات الإسلامية أو غيرهم عن معالم المشروع الإسلامي، لسمعت مائة مشروع، ومائة تصور، فلكل مفهومه، ولكل تصوره، أما الحقيقة المرة فتكمن في أن أمتنا اليوم لا مشروع لها!
الثاني: الحراس والحَمَلة:
إذا قام المشروع ولم يكن له حراس من أهل العلم، يمدونه بالتطوير والتجديد والتعميق، فلن تقم له قائمة، ولن يُكتب له البقاء والاستمرار، وإن أي مشروع لا تمتد إليه يد التجديد والتغيير والتحسين والحماية الدائمة لن يُكتب له الفلاح والنجاح.
كما أنه إذا وُجد حراس؛ أي علماء بلا مشروع يحفظونه، ويؤطرون له، ويعمقونه، فهم تجار دين، وقطاع طريق، وليسوا حَمَلة رسالة.
الثالث: السلطة الزمنية:
أو ما يسمونه النظام السياسي، الذي يتبنى المشروع، ويرعى الحَمَلة، وإن قام نظام سياسي وزعم أنه يحمل فكرة الإسلام، أو ينطلق من مرجعيته، فهو واهم، لأنه على هذا النحو ليس إلا ممارسة سياسية، تبقى بقدر ما بقيت في باكستان ضياء الحق، وسودان البشير، وتركيا العدالة والتنمية.. وغيرهم، ثم سرعان ما تختفي، وكأنها ما كانت، لأنها فقدت أعظم منطلقاتها، وهو المشروع الذي قامت من أجله.
لذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يتسلم السلطة السياسية قبل أن يكتمل المشروع، ويُعد الحَمَلة، يوم أن عرضت عليه قريش في بداية الدعوة أن يكون ملكاً عليهم، فرفض حتى لا يكون مجرد ملك من الملوك بلا مشروع واضح المعالم، وبلا حراس تربوا عليه، وتعمق في نفوسهم، واختلط بدمهم ولحمهم، وعاشوا به وعاشوا له.
معالم لا بد مراعاتها
– المشاريع القائمة اليوم توفرت فيها المكونات الثلاثة؛ سواء المشروع الصهيوني أو الطائفي أو غيرهما، فلديهم مشروع عقدي واضح، له خطط مستقبلية علمية، ومسارات تنفيذية مختلفة، كما أن لديهم ثلة من المفكرين والعلماء والسدنة، يحمون المشروع ويطورونه ويصنعون له حملة أكفاء، بالإضافة أن لكل مشروع من تلك المشاريع نظاماً سياسياً يتبناه ويحميه، بل هو منتج من منتجاته، وركن من أركانه.
– لا ينبغي أن يكون المشروع الإسلامي مقابلاً لمشروع آخر مضاد، فليس متخصصاً في مواجهة الطائفية فحسب، أو التنصير فحسب، أو الإلحاد فحسب، أو الصهيونية أو غيرها، بل لا بد أن يكون مشروعاً حضارياً عاماً، تُرتب فيه الملفات وفق أولوياتها، ومدى الاضطرار إليها، وحسب الإمكانات المتاحة.
– لا بد أن يكون لهذا المشروع استشراف علميٌّ لمستقبله؛ والمشروع الذي لا يملك استشرافاً علمياً للمستقبل الذي سينشأ فيه لن يُكتب له النجاح، لأن الذي لا يعلم ماذا سيحدث لا يعلم أين سيكون؛ لذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 55).
– لا بد أن يمثل المشروع فتحاً معرفياً، لأنه إذا لم يكن للأمة فتح معرفي فلن يكون لها يوماً فتح سياسي أو عسكري أو اقتصادي، بمعنى أنه لا تمكين بدون معرفة، والمعرفة ليست إعادة تدوير المعلومات، بل إنتاج المفاهيم والمعارف، واستيعاب المستجدات، واستدعاء القرآن لإدارة حركة الحياة، بقوانينه ومنهجياته.
– المشروع الإسلامي لا يعني انصهار الناس في بوتقة جامدة، لا مجال فيها للتنوع ولا للاختلاف، بل على العكس من ذلك، فعليه أن يستنهض قوى التفكير والإبداع ورحابة الفهم، واستثمار كل الطاقات، وأن يتخلى عن الملابس القديمة، فمعركة الغد لها أسلحتها، وأشكالها وأدواتها وملابسها.
– المشروع الذي يتعجل المراحل، ولا يُتم متطلبات كل مرحلة على الوجه الأكمل، وينطلق في مرحلة التنفيذ دون تقعيد، أو مرحلة السياسة دون منهجية، أو غيرها، فسيضطر بعد مرور أزمنة كثيرة، وتضحيات كبيرة، أن يعود إلى نقطة الصفر أوما دونها.
– استصحاب أهمية منطقة الشام لكونها المنطقة التي جعل الله لها خاصية شرعية مباركة، فهي محط بركة الله تعالى، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِه ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ).
وكل المشاريع استهدفت منطقة الشام وبنيت تصوراتها عليها؛ لذا لا ينبغي أن نتجاهلها في معالم المشروع، بل في انطلاقته.
– القدس راية الإسلام التي تسلمها النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء جميعاً، وقد جعلها صلى الله عليه وسلم أمانة في عنق هذه الأمة، وجعلها الله بركة للعالمين؛ لذا فإن الانحياز إليها كراية، تجتمع حولها الأمة، يمكن أن نحرر بها جميع أقطار الإسلام، وليس فقط نحررها بجميع أقطار الإسلام.
– الأمة لا تنقصها الإمكانات والطاقات في كل المجالات، بل على العكس تماماً، فإنها تملك من الإمكانات ما يحرر العالم كله من أغلال الاستبداد والتجهيل والتجريف، ولكن، للأسف، فإن الأمة لغياب رأسها أضحت تُصنف الأولى عالمياً في مجال إهدار الطاقات والإمكانات!
– الأمة لن تنطلق من فراغ، فهناك أودية للخير تعمل في كل مكان، تتطلع إلى نداء الحق وراية الصدق ومنادي العمل والجهاد.
– وهناك منطلقات شرعية ما زالت تضخ الحياة، وتصنع الحاضر، وتبني آفاق المستقبل، ما زال القرآن يأخذ بزمام الأمة إلى معارج الوصول، قال صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا»، وما زالت العقيدة تذكرنا بأن الله تعالى بشرنا: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ جَاءَنِي يَمْشِي جِئْتُهُ هَرْوَلَةً» (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وهو صحيح على شرط مسلم).
ويقودنا إلى كل ذلك يقين في الله جازم؛ (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: 40)، وثقة في تأييده وعونه؛ (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، ومصير لعدونا نراه رؤيا العين؛ (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء: 81)، ورفعة لأهل الإيمان قاطبة؛ (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141).