يميل بعض من الناس إلى السكوت عن كثير من الأحداث الجارية، زاعمين أن في السكوت السلامة من الأخطار والنجاة من الأضرار، والحق أن الإنسان إذا ظهر له الصواب فالواجب عليه أن يتمسك به ويعلن دعمه له ودفاعه عنه بما يستطيع من الوسائل، وإذا لم يظهر له الحق فعليه أن يبحث عنه حتى يسانده ويقف بجانبه، أما الانسحاب والركون إلى الصمت فإن له أخطاراً عظيمة على الفرد والمجتمع، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: مخالفة أمر الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، ففي الآية حث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه علامة على إيمان المؤمن، فمن فعل ذلك كان من المفلحين، ومن تخلى عنه فهو من الخاسرين.
ثانياً: عدم الاستجابة للتوجيهات النبوية:
حفلت السُّنة النبوية الشريفة بالعديد من التوجيهات التي تؤكد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحث على تغيير المنكر بكل وسيلة ممكنة، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ».
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من السكوت عن الحق، ففي مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألَا لا يَمنَعَنَّ أحَدَكم رَهْبةُ النَّاسِ أنْ يقولَ بحَقٍّ إذا رَآهُ أو شَهِدَه؛ فإنَّه لا يُقرِّبُ من أجَلٍ، ولا يُباعِدُ من رِزْقٍ؛ أنْ يقولَ بحَقٍّ أو يُذكِّرَ بعَظيمٍ».
ثالثاً: جرأة العصاة على الإكثار من المعاصي:
إن السكوت عن الحق يدفع أهل الباطل إلى التمادي في باطلهم، ويزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، حتى يظن الواحد منهم أن عمله حسن، وهو في الحقيقة على الباطل، وهؤلاء من شرار الناس، فالله تعالى يقول: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً {105} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (الكهف).
وإذا زاد الشر واستفحل خطره دون أن يجد مقاوماً فإنه يصبح عادة للناس، لا يجدون حرجاً في فعله والدعوة إليه، حتى يمسي الناس وهم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
ففي صحيح الجامع عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه».
رابعاً: قلب الحقائق:
إن المعصية مع تكرارها وصدورها عن كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل العلم لها، يجعل البعض يظن أنها ليست معصية؛ ما يؤدي إلى قلب الحقائق، ورؤية الباطل حقاً والحق باطلاً، كما حدث مع قوم لوط عليه السلام حين قالوا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل: 56)، فقد قلبوا الحقيقة، وعدّوا الطهارة عيباً، بسبب عدم إنكارهم على بعضهم فعل السوء.
خامساً: تزيين المعصية في قلوب الناس:
يقتدي الإنسان بمن حوله من بني جنسه، فإذا وجد المعصية منتشرة دون نكير، فإن ذلك يدفعه إلى فعلها، اقتداءً بمن فعلها، وتمتعاً بشهوة المعصية، وحين يجد العاصي متعة في المعصية وانتشاراً لها بين الناس فإن رهبته من فعلها تزول شيئاً فشيئاً، حتى لا يجد حرجاً من المجاهرة بها والإعلان لها أمام الجميع.
سادساً: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز:
إذا رأى الإنسان المنكر فإنه يجب عليه أن ينكره في وقته، حيث إن هذا هو وقت الحاجة إلى الإنكار، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، هذا إذا لم يكن الإنكار يؤدي إلى منكر أكبر من المنكر الأول، وقد يتعلل الساكت عن الحق بأن الوقت لا يسمح بالإنكار، وعندما يحين الوقت فإن صوتي سيجهر بالحق، والحقيقة أن إنكار المنكر له درجات، فمن استطاع أن ينكر المنكر بيده فعل، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، لكنه لا يرضى ولا يقبل به أبداً، بل ينكره ويتمعر وجهه غضباً لذلك إذا لم يستطع الكلام أو الفعل.
وهنا يجب أن نحرر هذه المسألة بوضوح، وهي: إذا خاف الإنسان على نفسه الضرر إذا أنكر المنكر فهو بين خيارين؛ الأول: إن كان يقدر على تحمل الأذى في سبيل الله فعليه أن ينكر المنكر بالضوابط الشرعية لذلك، وله أجره وثوابه، والثاني: إن كان لا يتحمل الأذى فإنه يجوز له أن يصمت، (لأنه في حكم المكرَه)، وهذا مع إنكاره بقلبه وعدم رضاه عن هذا الفعل، فضلاً عن المشاركة فيه.
سابعاً: التشبه بالشيطان:
ما كان للمسلم أن يرضى لنفسه أن تنتهك حرمات الله تعالى وهو ساكت، إذ إنه بذلك يشارك في نشرها، وهو في هذا يشبه الشيطان الرجيم، وقد أحسن أبو علي الدقاق حين قال: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس(1).
ثامناً: شيوع الاستبداد:
إن الطغاة إذا لم يجدوا من يوقفهم عند حدهم أو يعترض على سوء فعالهم؛ فإنهم يزيدون في طغيانهم واستبدادهم، ولهذا قال الله تعالى عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54).
تاسعاً: التعرض للعنة الله والطرد من رحمته:
لقد لعن الله عز وجل بني إسرائيل حين ارتكبوا المنكرات دون أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك، فقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة)، والآية وإن كانت خاصة في سببها ببني إسرائيل، فإنها عامة في تحقيق اللعن لكل أمة تفعل المنكر دون أن ينهي بعضها بعضاً عن ذلك.
عاشراً: التعرض للعقاب الإلهي:
أخرج أبو داود عن أبي بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ»، وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه: إنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا، ثمَّ لا يُغيِّروا؛ إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ».
_____________________
(1) شرح النووي على مسلم (2/ 20).