أوردت كتب التاريخ والسير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: هَلُمَّ نَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ اليَوْمَ كَثِيْرٌ، فَقَالَ: وَاعَجَباً لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مَنْ تَرَى؟ قال ابن عباس: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى المَسْألَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيبْلُغُنِي الحَدِيْثُ عَنِ الرَّجُلِ، فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ (نائم في القيلولة) فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيْحُ عَلَيَّ التُّرَابَ، فَيَخرجُ، فَيَرَانِي، فَيَقُوْلُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ، أَلَا أَرْسَلتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُوْلُ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، فَأَسْأَلَكَ، قَالَ: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَذَا الفَتَى أَعقَلُ مِنِّي(1)، إن ما يقصده هذا الصحابي الجليل من قوله: «كان هذا الفتى أعقل مني» هو أن العلم سبيل إلى الرفعة والمجد.
الناظر في تاريخ الأمم وأحوالها يدرك أن بلوغ المجد في أي مجال من مجالات الحياة يقوم على العلم، سواء كان هذا العلم متعلقاً بعلوم الشرع، أم بعلوم الحياة المتنوعة كالعلوم التجريبية من طب وهندسة واقتصاد وتجارة، أو العلوم الإنسانية والاجتماعية أو غيرها، فهي كلها تتكامل لتسهم في نهوض المجتمع وتقدمه، فإذا كان العلم هو أساس النهوض والتقدم الحضاري فإن الأمة الإسلامية اليوم في أمسّ الحاجة إلى الأخذ بأسباب النهوض، حتى تعود إلى مجدها وعزتها من جديد.
العلم أساس النهضة بالأمم السابقة
ليس أصدق من القرآن الكريم يخبرنا عن أساس التقدم والنهوض الحضاري في الأمم السابقة على الإسلام، مثل حضارة داود، وسليمان عليهما السلام، حيث قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل).
فقد تحدثت الآيات عن فضل الله تعالى على داود، وسليمان بالعلم، وكان هذا العلم شاملاً لكل أنواع العلوم، حيث دل على ذلك قوله تعالى: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
قال البهي الخولي: أما ثمرة هذا العلم في هذه الحضارة فهي السيطرة على قوانين الطبيعة وقواها المختلفة، ليسخرها أهله في منافع الدولة، ويدل على ذلك ما أثمره العلم في خدمة الملك العادل حين طلب من جنوده إحضار عرش ملكة سبأ، كما في قوله تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل)، أرأيت الذي عنده علم من الكتاب كيف يسخر علمه لمشيئة الملك العادل، فلما تحقق فضل الله بتسخير هذا العلم عملياً؛ اعترف به سليمان فقال: هذا من فضل ربي(2).
ومما يدل على أهمية العلم في تأسيس حضارة داود، وسليمان ما ذكره الله تعالى أنه آتاهما حكماً وعلماً، وأنه علّم داود عليه السلام صناعة الدروع لتكون حصناً منيعاً له ولقومه، حيث قال عز وجل: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {79} وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء).
ومن الأمثلة التي ذكرها القرآن الكريم في الدلالة على أهمية العلم في النهوض الحضاري ما ورد في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، حين رأى ملك مصر رؤيا منامية شديدة، وعرضها على من حوله من الكهنة فقالوا: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) (يوسف: 44)، ولما وصلت الرؤيا إلى سيدنا يوسف عليه السلام، وكان قد آتاه الله علم تفسير الرؤى، فقام بتفسيرها وتنفيذ الحلول المتعلقة بها حتى أسهم هذا الأمر في إنقاذ العالم من هلاك محقق بسبب المجاعة، ولما سئل سيدنا يوسف عليه السلام عن تعبير الرؤى، أجاب: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، فالعلم هو الأساس الذي تقوم عليه الحضارات وتنهض به الأمم.
إسهام العلم في بناء النهضة الحضارية في الإسلام
إن أول ما نزل في الإسلام من القرآن الكريم لتشييد بناء هذه الأمة هو الحث على العلم، حيث كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق).
وكذلك أنزل الله من أوائل ما أنزل على رسوله من القرآن الكريم سورة «القلم»، ليلفت الأنظار إلى العلم، حيث قال تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم: 1)، ففي هذا تأكيد على تأسيس البناء الإسلامي وارتكازه على العلم.
وإن الإسلام لم يؤسس بنيان الأمة على العلم الشرعي وحده، بل فتح الباب أمام العلوم المتنوعة بتنوع مجالات الحياة، حيث لفت الأنظار إلى تنوع العلوم ووجوب تحصيلها والانتفاع بها، فقد قال عز وجل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر).
وحين تحدث الله تعالى عن رفعة مكانة أهل العلم لم يقصر ذلك على العلم الشرعي، وإنما جعله شاملاً، حيث قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)، وحيث دعانا إلى طلب الاستزادة من العلم جاء بلفظة العلم في سياق النكرة لتفيد عموم العلم، حيث قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114)، ففي هذا الحشد من التوجيهات ما يدل على أهمية العلم في تشييد البنيان الحضاري، ويدل على هذا ما قاله الشاعر: أحمد شوقي:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال
أثر العلم في حماية النهضة الحضارية في الإسلام
من أخطر ما يهدد الأمم والحضارات أن ينتشر فيها الجهل، ويقل فيها العلم، فإن هذا من أمارات ذهاب الحضارة وفقدانها، حيث قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) (الرعد: 41)؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ فُقَهَائِهَا وَعُلَمَائِهَا وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ(3)، ففي هذا دليل على أن ذهاب العلم مؤذن بخراب الديار وانهيار الحضارات.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رسم لنا طريق الأمن على علوم الأمة وحضارتها وحمايتها من مكر غيرهم حين دعا صاحبه زيد بن ثابت إلى تعلم اللغة السريانية التي كانت تتكلم بها اليهود.
____________________
(1) الطبقات الكبرى: ابن سعد (6/ 327)، وانظر: سير أعلام النبلاء: الذهبي (3/ 342)، وتاريخ دمشق: ابن عساكر (73/ 184).
(2) تذكرة الدعاة، ص 48.
(3) تفسير ابن كثير (4/ 472).