في 8 أكتوبر 2024م، الذي يحتفل فيه الصهاينة بما يُسمى «أيام التوبة» التوراتية، ضمن احتفالات دخول العام اليهودي العبري الجديد التي تستمر من 4 – 25 أكتوبر، اقتحم مستوطن يهودي يرتدي ثياب الكهنة ساحة المسجد الأقصى وأدى «صلاة بركات الكهنة» كاملة.
وشاركه –ضمن الاقتحام اليومي للمسجد خلال احتفالات الأعياد اليهودي- حاخامات أدوا طقس الانبطاح (السجود الملحمي) فوق ساحة «الأقصى» الشرقية تحت رعاية شرطة الاحتلال، لتكريس أرض الحرم القدسي باعتبارها «معبداً».
هذا التطور الخطير جعل باحثين في شؤون المسجد الأقصى يحذرون من أنه قد يكون ضمن مخطط صهيوني لترسيخ أن هذه المنطقة الشرقية من الحرم معبد يهودي، تمهيداً لبناء «الهيكل» المزعوم، وفرض تقسيم «الأقصى» مكانياً؛ أي مكان لليهود وآخر للمسلمين، بعدما فرضوا التقسيم الزماني بالسماح للصهاينة بالدخول والصلاة في أيام معينة.
انتصار ديني بعد الفشل العسكري
خطورة ما يجري هو أن تيار الصهيونية الدينية الحاكم حالياً في «إسرائيل» ويمثله بشكل مباشر وزيرا الأمن إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريش، يسعى لاستغلال الحروب الدائرة حالياً مع الفلسطينيين واللبنانيين وإيران واليمن لفرض أمر واقع في المسجد الأقصى مشابه لما فعله في المسجد الإبراهيمي الذي قسموه 63% لليهود، و37% للمسلمين!
يريدون محاولة انتزاع انتصار ديني وفرض الهوية اليهودية على الحرم القدسي بعد الفشل العسكري، مستغلين العلو الصهيوني، والتخبط والصمت العربي والإسلامي على مجازرهم.
والقيام بطقس الانبطاح (السجود الملحمي) الجماعي للتعبير عن عودتهم لمكان «المعبد» المزعوم.
ففي أعيادهم الحالية التي تتزامن مع أكتوبر، بدأ المستوطنون والتيارات الصهيونية تكثيف اقتحمهم المسجد والصلاة في باحته، وخرق اتفاق قديم وقعه عام 1976م موشي ديان مع أئمة «الأقصى» يمنع صلاة اليهود داخل الحرم القدسي ويسمح لهم بالزيارة فقط.
ومنذ معركة «سيف القدس» عام 2021م وقصف «حماس» للقدس لأول مرة تضامناً مع المسلمين ضد اعتداءات المستوطنين والاحتلال على المصلين وأهالي القدس، بدأ الصهاينة يُدخلون أدوات جديدة لساحة «الأقصى» لفرض هذا الأمر الواقع.
من ذلك نفخ البوق التوراتي، وهو ما فعلوه (للعام الرابع على التوالي) في 3 أكتوبر 2024م، والدخول لساحة المسجد بملابس كهنة الهيكل (المسؤولين عن ذبح القرابين) والقيام بالصلاة بصوت عال، والسجود الملحمي الذي لا يتم سوى داخل المعابد والهيكل، بالتزامن مع احتفالات دخول العام اليهودي العبري الجديد.
وهو ما يعد تغييراً جذرياً في طريقة الاقتحامات التي باتت تشمل تأدية الصلوات والطقوس الدينية الحركية بالكامل بشكل يومي، بعد أن كانت تكتفي بأداء الصلوات الشفوية، وفق د. عبدالله معروف، أستاذ دراسات بيت المقدس، مسؤول الإعلام والعلاقات العامة السابق بالمسجد الأقصى.
لكن الجديد هذا العام محاولة مجموعات الهيكل والصهيونية الدينية جعل الحرب فرصة لحسم السيطرة وفرض السيادة على «الأقصى»، مستغلين صمت العرب والمسلمين، يدعم ذلك نوايا أعلن عنها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لخلق شرق أوسط جديد بهوية يهودية، حيث تحدث في غضون أسبوعين عن «ملاحقة الأعداء والقضاء عليهم كما هو مكتوب في التوراة»، وأن «زمن المشياح جاء ليقيم مملكة اليهود»، وهو يبشر «الإسرائيليين» أنهم سينتصرون، وأنه سيحقق «نبوءة إشعياء»، في تدمير الفلسطينيين والعرب ووصفهم بأنهم «أبناء الظلام».
ويتبنى تيار الصهيونية الدينية (الحردلي الخلاصي) الذي ينتمي إليه بن غفير، وسمورتيش، التأويل الأكثر تطرفاً لفكرة الخلاص اليهودي ونزول المخلص المنتظر، الذي سيجعل اليهود قادة للعالم، وبناء الهيكل على أنقاض «الأقصى».
وترى هذه الحركات من الصهاينة المتدينين الثوريين أو التصحيحيين أو العلمانيين أن بناء «الهيكل الثالث» المفتاح لحل كل مشكلات اليهود ومصائبهم وخاصة الدينية والروحية، ويرون أنفسهم «أداة الرب لتقريب مجيء المخلص».
وقد وصف الشيخ كمال الخطيب هذه الاعتداءات الصهيونية على «الأقصى» بأنها محاولة لاستغلال الفرصة في الظرف الحالي لتثبيت وقائع على أرضية المسجد الأقصى، وقال: إن «الأقـصى» المبارك سيظل هو الصخرة الصلبة التي تحطمت وتكسرت عليها قرون المحــتلين والمسـتـعــمرين والمتطاولين والمــغرورين.
وفي إشارة لمخططات نتنياهو ووزرائه المتطرفين، قال: إن من يظن أنه وفي ظل النشوة، والعربدة التي يعيشها، سيجعل المسجد الأقــصى فرصته الذهبية لفرض واقع جديد، فإنه واهم؛ لأن المسجد الأقصى تتحطم على صلابته قرون المعـربدين وتتبدد أوهامهم وأحلامهم.
هل «الأقصى» في خطر وجودي؟
بحسب تقدير موقف لمؤسسة القدس الدولية حول المسجد الأقصى كمعركة وجود، يحاول الاحتلال بعد «طوفان الأقصى» الرد –دينياً- بإعادة بلورة إستراتيجية للحسم في «الأقصى»، وذلك عبر الإحلال الديني ومحاولة تأسيس «الهيكل» المزعوم؛ ما يجعل معركة «الأقصى» معركة وجود.
التقدير الذي أعده الباحث في شؤون الأقصى زياد أبحيص رجح أن يكون هذا الموسم أعتى مواسم العدوان على «الأقصى»، وأن تتعامل القيادة الصهيونية مع ذكرى «طوفان الأقصى» ومعالجة عقدة 7 أكتوبر باستباحة «الأقصى» وتهديده وجودياً بمحاولات تصفية هويته وتهويده؛ لذا، دعا لضرورة الضغط على النظام العربي الرسمي للحصول على أي موقف إيجابي ووقف تدهور سقوف موقفه.
الأمر ذاته يحذر منه د. عبد الله معروف، أستاذ دراسات بيت المقدس، مؤكداً أن المسجد لم يعد فقط مهددًا في موسم الاعتداءات المعتادة، بل يواجه الآن خطرًا وجوديًا يهدد كيانه بالكامل.
وأوضح، في تحليل نشره بموقع «الجزيرة»، في 19 سبتمبر 2024م، أن حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة تحاول استغلال الذكرى السنوية لعملية «طوفان الأقصى» لتمرير رسائل سياسية ودينية تُعمق خطر التهويد، وتسعى وزارة التراث اليهودية إلى تزوير تاريخ القدس المحتلة والمسجد الأقصى والترويج للأساطير اليهودية، لترسيخ رواية الاحتلال حول منطقة المسجد وتاريخ القدس ككل.
وفي 27 أغسطس 2024م، أصدرت الوزارة قراراً رسمياً هو الأول من نوعه بتمويل اقتحام المستوطنين لـ«الأقصى» والترويج للتراث اليهودي بصيغة تاريخية خالية من السرديات الفلسطينية، أي تهويد هذه السرديات.
وقد أكدت صحيفة «هاآرتس» العبرية، في 29 أغسطس، أن خطة الاحتلال لبناء «الهيكل» وهدم المسجد الأقصى تتم بناء على عقيدة دينية يهودية متطرفة، وتواطؤ من التيار الإنجيلي الأمريكي المتشددة معهم.
وأكدت أن اليمين الصهيوني المتطرف المسياني الذي يتواجد حالياً في السلطة بحكومة نتنياهو، جاد للغاية بشأن إعادة بناء «الهيكل».