الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
سئل الشاعر محمد إقبال عن سر بلاغته وفصاحته فقال: يرجع الفضل في كل ما أنشأته من شعر ونثر إلى توجيهات أبي رحمه الله، فقد تعودت قراءة القرآن بعد صلاة الصبح، وكان يراني والدي فيسألني ماذا أصنع؟ فأجيبه بأني أقرأ القرآن، وظل على ذلك 3 سنوات متتاليات يسألني سؤاله فأجيبه جوابي، وفي ذات صباح قلت له بعد إجابتي: ولكن لماذا تسألني عن شيء أنت بجوابه عليم؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك: اقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك، ومنذ ذلك الحين بدأت أفهم القرآن، وأُقبل عليه؛ فكان من أنواره ما اقتبست، ومن بحره ما نظمت.
وقفت مشدوهاً أمام هذا الحوار التربوي الهادف من الوالد الفقيه البصير إلى معْقد أمله ومحط فؤاده، وكيف جمع له بين القراءة والتدبر والفهم ليجعل منه صورة إيجابية للقرآن الكريم، فنحن بحاجة إلى قوالب إيمانية أكثر من حاجتنا إلى نسخ قرآنية، فكثيرون هم أولئك الذين حفظوه في صدورهم ولم ينفذ إلى قلوبهم، أما هذا الوالد اليقظ فدله على موطن التميز والنبوغ، وأرشده إلى أن يفقه رسائل الله تعالى في قرآنه وكأنها تخاطبه وتمثل بين عينيه تدفعه للهدى وترده عن الردى.
النسب الزكي
ولد في دولة باكستان بمدينة سيالكوت الواقعة في ولاية بنجاب عام 1289هـ/ 1877م، وتوفي عام 1938م بعد أن بلغ من العمر 60 عاماً، سليل بيت معروف من أوسط بيوتات البراهمة في كشمير، أسلم جده الأعلى بابا لولي حاج في القرن الخامس عشر الميلادي، وذهب أكثر من مرة سيراً على الأقدام إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج؛ ومن ثم لُقب بـ«الحاج».
معايشة القرآن يجب أن تكون باللسان ذكراً وبالقلب تدبراً وبالعقل تفكراً وبالجوارح عملاً
نشأ إقبال في بيت طاهر لأبوين تقيين كريمين، فكانت أمه نموذجاً رائعاً للتقوى والورع والتمسك بتعاليم الإسلام، قال عنها يوم موتها: عندما آتي إلى تراب مرقدك سوف أصيح من ذا الذي يذكرني في الدعاء في منتصف الليل.
أما والده محمد نور الدين إقبال، فكان له علم واسع في الدين والزهد والورع، وكانت تدمع عيناه خوفاً كلما ذكرت الجنة والنار، وكلما سمع عن يوم الحساب والجزاء، باشر المحاماة والتدريس وحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة.
هذا بيت أساسه التقوى والزهد والورع، وله من قيام الليل النصيب الوافي، وفي الخوف من الله والدار الآخرة الجواب الكافي، فما ثمرته المرجوة؟ إنه رجل عاش رسالة الإسلام بعقله وقلبه وقلمه حتى لُقِّب بـ«شاعر الإسلام في العصر الحديث».
بين المعاني والمباني
معايشة القرآن الكريم يجب أن تكون باللسان ذكراً وبالقلب تدبراً وبالعقل تفكراً وبالجوارح عملاً، وإن كان للقراءة جلسة فيجب أن يكون للتدبر جلسات؛ لأن التدبر سر القراءة وعنوان النجابة، وهو شعور ينبض في قلوب المؤمنين، ونور يفيض على جوارح المتقين، وهذه هي الرسالة الأولى والأهم من الرسائل القرآنية التي تشكل الشخصية السوية، ويا لروعة هذه الكلمة من الوالد المربي: اقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك، وكأنه رسالة من الله لك.
يقول الإمام ابن القيم: لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية محتاجاً إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم.
الرسائل القرآنية محطات تنبيه للغافل ووقود يشحذ همة العاقل وضياء يهدي الحيران
ومن نعم الله على عباده أن جعل قلوب الصالحين أوعية لكلامه، وصدورهم مصاحف لحفظ آياته، ويسر لهم حفظه وفهمه؛ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 17)، يقول د. محمود عمارة: إن الذين يمضغون ألفاظ القرآن مقصرون في حق القرآن، وليت الذين يمسكون بالمصحف لائمين غيرهم بالتقصير ليتهم يتهمون أنفسهم بالظلم حين يتعاملون مع القرآن بلغة الأرقام، فالأهم عندهم كم يقرؤون، وليس مهماً كيف يقرؤون! وهذه الكيفية هي الأساس في تربية الناس، وأعظم من السباق في قراءة القرآن أن تتوقف أمام الآية لتستخرج من بحورها ما لذ وطاب من قيم الإيمان، ولقد نزل الحق تنزيلاً وعلى المدى الطويل ليتسرب منه إلى الأعماق رحيق يسري في دمائنا، فإذا أقوالنا وأفعالنا عليها من عزة القرآن دليل.
فقه الرسائل القرآنية
الرسائل القرآنية محطات تنبيه للغافل، ووقود يشحذ همة العاقل، وشعاع من ضياء يهدي الحيران، وعذب فرات يروي غلة الظمآن، ومن هذه الرسائل المهمة التعرف على الله تعالى والتعريف به باعتباره رأس العلم وأسمى المعارف، والمفتاح الأوحد لمعرفة الله تعالى تدبر الأسماء الحسنى المتضمنة لمعاني العظمة والإجلال؛ (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ {23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر).
ورسائل القرآن عن اكتشاف الحياة الآخرة؛ لأن الحياة طبقتان؛ الأولى تنتمي إلى عالم الشهادة (الدنيا)، والثانية تنتمي إلى عالم الغيب (الآخرة) الموت والبرزخ والبعث والحساب والجزاء، ورسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها الكثير نحتاج إلى معايشته مع أولادنا لنبث في نفوسهم الأمن والسلام والحب والوئام.
__________________________
1- فلسفة الذات في فكر محمد إقبال، ص 38.
2- المرجع السابق، ص 40.
3- مفتاح دار السعادة (1/ 187).
4- سائح في رياض القرآن، ص 137 – 138.