ما أحوجنا في هذا الزمان المتخم بالتصورات المادية إلى تأمل أدلة وجود الله عز وجل ووحدانيته وخالقيته، لا سيما إن وُجدت في النفس حتى ليتمكن كل الناس من أن يعقلوها، فلا يبقى الراد لها إلا جاحدًا مستحقًا لأشد المساوئ في الدنيا والآخرة، ومن تلك الأدلة قول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
وردت الآية الكريمة السابقة في سورة «الروم»، ونظام السورة الكلي يدل على الرابطة بين جميع آيات الله في خلقه وقدره في السابق واللاحق (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) (الروم: 4)، والدعوة إلى التفكر في هذه الآيات (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) (الروم: 8).
ويدل على ذلك تعداد آيات صُدرت بقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ)، فذكرت آياته تعالى في خلق الإنسان، والأزواج، والسماوات والأرض، واختلاف الألسن والألوان، والمنام بالليل والنهار، والبرق، والمطر، وإحياء الأرض بعد موتها، والبعث بعد الموت.
ويظهر من هذا التعداد أنه قد تناول حياة الإنسان كلها؛ بدءًا من خلقه الأول، ومرورًا بتناسله ورزقه وصحته وتسخير المخلوقات له، وانتهاءً ببعثه بعد الموت، وأن الزواج من هذه الدورة التي سنَّها الله عز وجل في خلقه، وجعلها رغبة فطرية لا يستغني عنها الجنس البشري عامةً في بقائه واستمراره.
(وَمِنْ آيَاتِهِ) الآية مشتقة من «التأيي» وهو التثبت، وقد جاءت لفظة الآية في القرآن في 382 موضعاً على معاني عدة مؤداها واحد، ويلاحظ أن جميع معانيها مؤداها واحد يؤكد المعنى اللغوي، فإن الآية حجة لا يصح مخالفتها، وعلامة على صدق الشيء ودليل عليه، والمعجزة من الحجج على وجوب الإيمان بالله، وهي من العظة التي تدل على الله، والقرآن كله وما يحويه من آيات وأحكام حجة ودليل ومعجزة وعظة.
ومن ذلك أن قوله تعالى: (وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا)، تتعدد بخصوصه تلك المعاني، فخلق الأزواج من الأنفس وجعل المودة والرحمة بينهما؛ من الحجج على توحيد الله وخالقيته وربوبيته، وهي معجزة لم تصدر إلا عن الله تعالى، وفيها من العبر والعظات الكثير لمن تفكر فيها.
خلق الله عز وجل الأزواج من جنس الأنفس، فخلق جميع الناس من آدم؛ (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) ثم خلق منه حواء (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، وكل الناس قد بُثت من آدم وحواء عليهما السلام (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ) (النساء: 1)، ففيهم ما فيهما من إلف أحدهما للآخر.
ويفهم من نظام هذه الآية أن ثمة علاقة بين خلق النساء من الرجال وعلته من السكن وما جعل الله بينهما من المودة والرحمة، فالخلق من نفس الجنس مفيد لمعنى هذه الرابطة وما فيها من الألفة والأُنس والحنو والعاطفة.
الزوج في اللغة الفرد الذي له قرين، والزوج: الاثنان، والزوج: كلُّ فردين لا يصلُحُ أحدهما إلاّ بالآخر.
فدلالة اللغة مجردةً من تسمية كلا الزوجين بنفس المسمى فيها ما يشير إلى خلق الأزواج من الأنفس وما جُعل بينهما من رابطة الألفة حتى كأنهما شيء واحد.
(لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا)؛ وفيه أن بيان علة خلق الأزواج من نفس الجنس هي السكن، وتعدية السكن بـ«إلى» تفيد معنى الميل، فـ«لتسكنوا إليها»؛ أي: لتميلوا إليها، وهو مضاد للوَحشة والنُفرة.
وفي ذلك لطائف؛ منها:
– أن خلق الأزواج من النفس هو المفيد للسكن الدائم، فليس تزاوجهما علاقة مؤقتة كما يكون في تلقيح النبات، وليس مهلكًا للنفس كما يكون في بعض أنواع الحيوانات التي تموت عقب التزاوج، بل فيه ما يزيد المودة والرحمة كلما تقدم بهما العمر.
– أن الرجل خُلق من تراب؛ ففيه قوة الأرض، فيحتاج إلى سكن يألفه حتى يستقر أمره.
– أن هذا الميل شامل لما في نفس الرجل وجسده، فإن في سكنه إلى المرأة استقرار لنفسه وزوال اضطرابها لما عند المرأة من عاطفة وحنو توازن ما فيه من شدة، واستقرار لجسده لما رُكِّب فيه هِياج ماء الصلب.
– أن هذه الفطرة جعلت بين الزوجين المودة والرحمة دون رَحِم كأبوة أو أمومة أو بنوِّة، وفي ذلك آية عجيبة، وهي حجة منه سبحانه وتعالى على ألوهيته.
(وَجَعَلَ بَيْنَكُم)؛ جعل: مفيدة لمنة الله عز وجل على عباده بأن أكرمهم بحصول ذلك، فليس الأمر من كسب العبد، بل فطرة جعلها الله تعالى بين الزوجين.
بينكم: تفيد معنى التشارك، فلم يجعل الله عز وجل للمودة والرحمة محلًا واحدًا يصب في الآخر، بل هي علاقة تبادلية وإن اختلفت أشكال المودة والرحمة، فلا شك أن مودة الرجل ورحمته ليست كمودة المرأة ورحمتها رغم أن الاثنين من جنس المودة.
(مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)؛ وقد تعددت تفاسير أهل العلم لهاتين اللفظتين، ولعل التعبير بها عما يكون بين الزوجين مفيد لأمرين:
الأول: أن أصل العلاقة بينهما علاقة شعورية، لا تخضع للحسابات، ولا تفتقر دائمًا إلى الحدود من واجبات والتزامات.
الثاني: أنهما مبدأ الفعل، وكذلك كل المشاعر، فهما مبدأ كل قول وعمل جميل يحصل بينهما.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)؛ وذلك مما يفيد أن في هذه الآية آيات كثيرة لا تقف عند حدود التفكر في ظواهر الخلق والزوج والسكن؛ بل هو عالم فسيح من الفكر في أدلة وحدانية الله في خلقه وإبداعه وعظمته، فما قيل وما سيُقال أقل من نقطة في بحر، فليستكثر المتفكر من فضل الله تبارك وتعالى أو ليُقِل.
(لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ)؛ فبيان هذه الآيات لا يحصل لكل أحد، بل للمتفكرين فقط، فكم من البشر قد تزوج ولم يقع له هذا التفكر، بل تتعدد أصناف الناس في فعلهم الأمر ونظرهم إليه كما هو مُشاهد، فكم ممن تزوج لقضاء الوطر، أو المال، أو الوجاهة، أو غيرها، فلا يستوقفه الاعتبار من تلك الآية المعجزة المستحقة لطول التأمل وبذل الفكر.