يعتبر الوصول إلى أحكام السياسة الشرعية من أعظم أبواب الجهاد في سبيل الله، حيث تسهم هذه الأحكام في حفظ الدين وتحقيق مقاصده، وتلبية حاجات الناس والوفاء بها، بما يحقق رغباتهم ويرضي الله تعالى.
وإن مجال السياسة الشرعية هو الوقائع والحوادث التي تجدّ، ولم يرد بشأنها نصوص صريحة تبين الحكم فيها، ونبين هنا أن الطريق إلى الوصول إلى حكمها هو الاجتهاد(1)، وهو عند الفقهاء والأصوليين: بذل الفقيه وُسْعه في استنباط الحكم الشرعي للواقعة أو الحادثة من الأدلة الشرعية، والراجح عند الفقهاء والأصوليين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد، وأن رائده في الاجتهاد استلهام ما نزل من التشريع أحياناً، وعن طريق القياس أحياناً أخرى، فقد كان يقيس، يجمع بين المتماثلات، ويفرق بين المختلفات، يربط الأشياء بنظائرها، ويلحق الفروع بأصولها، منبهاً إلى علل الأحكام وأسرار التشريع.
فقد روى أحمد، والنسائي، عن عبدالله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه، قال: «أنت أكبر ولده؟»، قال: نعم، قال: «رأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان يجزئ ذلك عنه؟»، قال: نعم، قال: «فاحجج عنه».
وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الاجتهاد أصحابه أن الشريعة لها حِكَمها وأسرارها، وأن نصوصها لها لبّ وروح، فلا يصح الوقوف فيها عند حدود الألفاظ والعبارات، مع إغفال اللب والثمرة، وأنه يجب البحث عن علل الأحكام ومعانيها لاستخدامها في الاجتهاد واستنباط الأحكام.
وقد فهم الصحابة ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقاسوا واجتهدوا في حضرته وغيبته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقر البعض على اجتهاده إذا أصاب، وينبه المخطئ إلى الخطأ، ويرشده إلى الصواب.
وقد اجتهد الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفق ما وضع لهم من مناهج الاجتهاد، وتابعهم في ذلك الفقهاء من بعدهم، يحذون حذوهم، ويترسمون طريقتهم، وكان لهم في ذلك مجالان: ما وردت فيه النصوص بحكم، وما لم ترد النصوص بحكمه.
الأول: الاجتهاد في فهم النصوص:
كانوا يجتهدون في فهم مرامي النصوص وأسرار معانيها، ولم يكونوا حرفيين يقفون عند ظاهر الألفاظ، بل كانوا يغوصون في أعماقها، وكانوا يرون بحذقهم وجودة قرائحهم في بعض النصوص أن لها عمومات معنوية، وأن هذه العمومات يجب العمل بها، كما يجب العمل بعمومات الصيغ والألفاظ، فإذا كان النص واردًا في واقعة خاصة، وأدركوا فيه جهة عموم؛ لم يترددوا في أن يجعلوا منه حكماً عاماً، وقاعدة تسري على كل ما يمكن أن يدخل تحتها من الجزئيات، وكانوا بهذا يستغنون عن إجراء عملية القياس لإدراك ذلك من دلالة اللفظ بمجرد فهم معناه.
فمثلاً، يقول الله تعالى في شأن الإنسان الوالدين: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) (الإسراء: 23)، فإن هذا النص إذا كان نهياً صريحاً عن التأفيف، فهو من غير شك يتناول النهي عن كل ما فيه إيذاء الوالدين من ضرب أو سب أو شتم، يَفهم ذلك كل من يفهم اللغة ودلالات الألفاظ، ولذلك نجد علماء الأصول يطلقون على هذا النوع اسم مفهوم الموافقة، أو دلالة النص، أو فحوى الخطاب، وإن أسماه بعضهم باسم القياس الجلي.
ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، فإن الوعيد في هذا النص وإن كان وارداً في خصوص أكل مال اليتيم بغير حق، فإن السامع لهذا النص لا يشك في أن المراد عموم إتلاف مال اليتيم بالإحراق، أو الإغراق، أو غيرهما، دون خصوص الأكل.
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»(2)؛ فإنه لا يتردد من يعرف اللغة العربية ومقاصد الشريعة في أوامرها ونواهيها في إدراك أن الغضب ليس مقصوداً لذاته، وإنما المراد نهي القاضي عن القضاء عندما يكون مشوش الفكر، مضطرب القلب والبال والخاطر، بسبب خوف أو هَمّ أو جوع وعطش شديدين، أو حزن شديد.
ومثل ذلك أيضاً نهي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يخطب على خطبته، فإنه إذا كان النص في ظاهره نهياً عن شيء خاص -وهو الخطبة والبيع على خطبة غيره، وبيعه- فهو في المعنى عام في الرهن والإجارة وغيرهما من العقود التي يزاحم فيها المرء أخاه، ويؤذيه بذلك.
الثاني: مجال استنباط الأحكام للوقائع التي لم يرد بحكمها نص أو إجماع أو قياس:
وهو مقصود السياسة الشرعية وطريق الوصول إلى أحكام هذه الوقائع هو الاجتهاد أيضاً، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بتقريره واستحسانه في حديث معاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً ووالياً، إذ قال له: «بم تقضي فيهم إن عرض لك قضاء؟»، قال معاذ: أقضي بكتاب الله تعالى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: فبسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد في سُنة رسول الله؟»، قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو -أي لا أقصر- فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتفه، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله»(3).
وهذا الرأي الذي أقر الرسول صلى الله عليه وسلم استخدامه واستعماله في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه، قد يكون قياساً جلياً أو خفياً، وقد يكون من أنواع أخرى عرفت فيما بعد الصدر الأول بأسماء اصطلح عليها، مثل المصالح المرسلة، وسد الذرائع، والاستحسان، فإن معانيها كانت فطرية مغروسة في نفوسهم، متشبعة بها أفكارهم وعقولهم، فكانوا يحكمون بما يسمى بالمصالح المرسلة؛ وهي العمل بما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً مما لم ينص الكتاب أو السُّنة أو الإجماع أو القياس على اعتباره بخصوصه أو إلغائه.
وقد يعملون بقاعدة سد الذرائع فيسدون أبواب بعض المباحات إذا اتخذها الناس سبيلاً وطريقاً إلى بعض المفاسد والمحظورات، وقد يراعون في اجتهادهم ما اعتاده الناس وجرى به عرفهم، كما كانوا يعتمدون أيضاً على قاعدة الاستحسان في بعض أنواعه.
أما القياس، فإنه وإن كان نوعاً من أنواع الرأي، ومندرجاً تحته، فإن الثابت به ليس حكماً سياسياً، وإنما هو حكم فقهي، لرجوعه إلى النص الذي ثبت به حكم الأصل، فمرجعه ومآله إلى النص، حيث يقول الأصوليون: «إن القياس مظهر للحكم وليس مثبتاً له»؛ أي أن الحكم الثابت به ثابت بالنص الذي أثبت الحكم في الأصل في الواقع ونفس الأمر؛ أي أن الواقعة يحكمها نص، فلم تكن من المجال الذي تجري فيه السياسة، لأن مجالها الوقائع التي لم يرد فيها نص يحكمها.
هذا، ولا تقتصر طرق استنباط الحكم السياسي والوصول إليه على الطرق الأربعة المذكورة آنفاً؛ وهي المصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، وبعض أنواع الاستحسان، وإنما تشمل أيضاً القواعد العامة، مثل: رفع الحرج، ونفي الضرر، والعدالة، والمساواة، وكل ما يحقق مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة أو الستة، فإن استخدام هذه القواعد وما ماثلها وتطبيقها يدخل ويندرج تحت الاجتهاد بالرأي، وعن طريقها يستطيع ولاة الأمر في الأمة أن يسنوا من النظم ما يحقق مصلحتها، ويستجيب لدواعي حاجاتها العارضة، ومطالبها المتجددة في الوقائع التي لا نجد لها دليلاً خاصاً من الكتاب أو السُّنة أو الإجماع، ولا نظيراً ثبت حكمه بأحد هذه الأدلة نقيسه عليها.
ونذكر هنا بعض الأمثلة، فمن أمثلة السياسة الشرعية، ما فعله أبو بكر الصديق من جمع المصحف الشريف وكتابته، وما رآه من ولاية العهد، وما رآه عمر بن الخطاب من فرض الخراج على الأرض المفتوحة، بدل تقسيمها بين الغانمين، وحرق حوانيت الخمر، وما رآه عثمان من إمساك الإبل الضالة، وزيادة آذان يوم الجمعة، وما رآه علي بن أبي طالب من التفريق بين الشهود في مجلس القضاء، وتضمين الصنّاع ما تحت أيديهم من أموال الناس.
فهذه الوقائع عرضت للخلفاء الراشدين، ولم يجدوا لها نصاً أو إجماعاً أو قياساً يحكمها، فلم يقفوا أمامها عاجزين مكتوفي الأيدي، بل اجتهدوا واستنبطوا لها الأحكام في ضوء القواعد العامة ومقاصد الشريعة من حفظ الدين والنفس والمال، وساسوا الأمة بها، وهذه هي السياسة الشرعية.
________________________
(1) المدخل إلى السياسة الشرعية: د. عبد العال أحمد عطوة، ص 118.
(2) أخرجه مسلم (1717).
(3) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.