رحلة الإنسان في هذه الدنيا قصيرة، وخيرُ مَن وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما قال في الحديث: «ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها».
وفي هذه الرحلة القصيرة يحدد الإنسان مصيره المستقبلي، ويَخُطُّ بأعماله سيرته الذاتية، ويغرس بآثاره مكانته في قلوب الناس، فالمُوَفَّق من ترك أثراً عطراً يعلق في أذهان كل مَن عرفه، وورّثَ سيرة طيبة يتناقلها الناس في حياته وبعد مماته، وخلّد أعمالاً تشهد بصلاح حاله، فالأثر يدل على المسير كما قال العرب قديماً، وترجم الأديب مصطفى صادق الرافعي ذلك المعنى بقوله: إذا لم تزد شيئاً على الحياة كنت زائداً عليها.
لو استشعر المسلم الأجر المترتب على صناعة الأثر في الدنيا والآخرة لسَما في آفاق البذل والعمل ليجعل من سَمْتِهِ قدوة، ومن سيرته منارة إشعاع لكل من ينشد الخير والتميز.
والمتأمل لآيات كتاب الله تعالى يجد هذا المعنى العظيم في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس: 12)؛ قال الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: «وآثارهم» هي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عَمل به أحدٌ من الناس اقتداءً بهذا العبد، فإنها من آثاره التي تُكتب له، هكذا يُثقّل الله موازين العباد يوم القيامة بآثارهم الطيبة التي خلّفوها، وأما في الدنيا فيكتب الله القَبول لصاحب الأثر في نفوس العباد، فيتناقل الناس سيرته الحسنة، وتلهج له الألسن بالدعاء والثناء.
لصناعة الأثر صور متعددة، ولعل من أعظمها ما قَصّته علينا كتب السيرة عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه بعد إسلامه، عندما انطلق مُبلّغاً دعوة الله عزَّ وجل فأسلم على يديه معظم العشرة المبشرين بالجنة الذين نشروا دين الله في الآفاق، فكانت ثمار أعمالهم في ميزان الصدّيق دون أن ينقص ذلك من أجرهم شيئاً، يا لها من تجارة رابحة يرفع الله بها مقام العبد!
ومن صور صناعة الأثر نشر العلم تعليماً وتأليفاً وتبليغاً، فهذا الإمام النووي رحمه الله الذي لم يتجاوز عمره 44 عاماً فقط، امتدَّ أثره إلى مئات السنين بعد وفاته، فلا يخلو مسجد أو جامعة أو بيت من كتابه العظيم «رياض الصالحين».
وفي العصر الحديث نماذج ملهمة لصناعة الأثر مثل د. عبدالرحمن السميط الذي خاض غمار الدعوة في أفريقيا وأسلم على يديه ملايين البشر حتى لُقّب بـ«فاتح أفريقيا»، والشيخ القعيد أحمد ياسين الذي لم يقعده مرضه فأحيا فريضة الجهاد في نفوس أجيال من الشباب أذاقت اليهود مرارة الهزيمة بعد وفاته.
لا يُشترط في صناعة الأثر أن تكون ذا مالٍ تنفق منه في سبيل الله، أو عالماً تنشر علمك ومصنفاتك، أو مشهوراً تُعرف بأعمالك بين الناس، فالمرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد النبوي اختارت عملاً يراه كثير من الناس بسيطاً، ولكنه خلّد ذِكْرها ورفع منزلتها.
فاختر لنفسك عملاً يخلّد ذِكْرَك في الدنيا، ويعلي من شأنك في الآخرة، فالحياة قصيرة والكَيّس الفطن من ترك وراءه في كل مكان مكث فيه أثراً طيباً يذكّر به:
وكن في الطريق عفيف الخطى شريف السماع كريم النظر
وكــن رجـــلاً إن أتـــوا بعــده يقـولون مــرَّ وهذا الأثــــر