في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدم نتنياهو رؤيته لشرق أوسط جديد تتشكل ملامحه على وقع الصراع بين محور تقوده إيران وآخر يقوده الكيان الصهيوني، عبَّر عنه في خارطة عرضها للجمهور الذي غادر أغلبه القاعة بمجرد دخول رئيس وزراء الاحتلال إليها لإلقاء خطابه، في 27 سبتمبر الماضي.
بعد ساعات من خطاب نتنياهو، أعلن عن غارات جوية استخدمت فيها 85 قنبلة ارتجاجية بزنة 2000 رطل لاغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله في عملية تعد الأعلى كلفة على مستوى العالم.
عملية الاغتيال، وما سبقها من عمليات عسكرية استخبارية بتفجير أجهزة الاتصالات «البيجر» التي استهدفت عناصر «حزب الله» في لبنان، تم الإعداد والتخطيط لها على مدى زمني طويل بدءاً من حرب يوليو 2006م، وانتهت بتحقيق اختراق عميق في العام 2016م مكن الاحتلال من مراكمة النجاحات الاستخبارية وإعداد خطة عسكرية كان يرجح أن تسير بالتوازي مع مشروع اقتصادي وسياسي وأمني روج له في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب تحت عنوان «صفقة القرن»، واكتسب مزيداً من الزخم في عهد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما عرف بمشروع «ممر التنمية الهندي الإسرائيلي»، في عام 2023م، الذي أعلن عنه في قمة دول العشرين في العاصمة الهندية نيودلهي.
تهميش الهوية العربية والإسلامية
فالشرق الأوسط مفهوم نحتته الدوائر الاستعمارية البريطانية بالهند في خمسينيات القرن التاسع عشر، إلا أنه ارتبط بقوة بالدوائر الاستعمارية الأمريكية قبل غيرها وبمشاريعها للهيمنة والسيطرة على المنطقة العربية التي تبلورت بوضوح عقب تشكيل القيادة المركزية الوسطى في العام 1980م.
مفهوم الشرق الأوسط استخدم أول مرة في العام 1902 بواسطة ضابط البحرية الأمريكي ألفريد ماهان، صاحب نظرية القوة البحرية في التاريخ، في مقال له صدر في سبتمبر من ذلك العام بلندن بعنوان «الخليج الفارسي والعلاقات الدولية»، دون أن يحدد بدقة دوله، في حين استخدم بشكل رسمي من قبل حكومة الولايات المتحدة لأول مرة في عام 1957م في مبدأ آيزنهاور المتعلق بأزمة السويس، وعرف فيه وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس الشرق الأوسط بأنه «المنطقة الممتدة بين وضمن ليبيا في الغرب وباكستان في الشرق، وسورية والعراق في الشمال، وشبه الجزيرة العربية في الجنوب، إضافة إلى السودان وإثيوبيا.
الشرق الأوسط الجديد من منظور نتنياهو لا مكان فيه للعرب والفلسطينيين، وبالنسبة لأمريكا لا مكان فيه للصين وروسيا أو للهوية الحضارية العربية الإسلامية، فهو مشروع يهدف لتكريس الهيمنة والنفوذ الأمريكي الصهيوني عبر ما يعرف بالسلام الأمريكي الذي انطلق في العام 1978م بتوقيع اتفاق «كامب ديفيد» بين مصر والكيان، واستكمل أبرز حلقاته في مؤتمر مدريد في العام 1991م عبر اتفاق «أوسلو»، واتفاق «وادي عربة»، لينتهي باتفاقات «أبراهام» التطبيعية في العام 2021م، وهي مشاريع كانت تهدف لتصفية القضية الفلسطينية التي قام على أنقاضها الكيان المحتل، وصولاً إلى تهميش وإضعاف الهوية العربية والإسلامية لصالح هوية شرق أوسطية بمعايير «إسرائيلية» مدعومة أمريكياً وأوروبياً، وبالشراكة مع الهند التي تمثل عملاقاً اقتصادياً وديموغرافياً قادراً على إذابة الهوية الحضارية للمنطقة العربية وغرب آسيا بأكملها.
أبعاد جيوسياسية
مشروع نتنياهو لشرق أوسط جديد اتخذ أبعاداً جيوسياسية تنسجم مع واقع الطموحات الأمريكية لاحتواء الصين وروسيا وصولاً إلى محاصرتهما ومنع تمدد نفوذهما في المنطقة العربية والمحيط الهندي أسوة بالمحيط الأطلسي والهادئ (الباسفيكي)، فالطروحات «الإسرائيلية» انسجمت مع الحوار الأمني الرباعي الأمريكي الهندي الأسترالي الياباني (كواد) الذي أطلقته واشنطن في العام 2007م، وبلغ ذروة نشاطه بعد الحرب في أوكرانيا والتوترات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي وجزيرة تايوان.
المشروع «الإسرائيلي» الأمريكي طموح، ورغم تعرضه لضربة قوية بعملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023م، عاد ليراهن على القوة العسكرية الفجة لفرضه على المنطقة بعد أن كان يراهن على القوة الاقتصادية والسياسية الناعمة أساساً لتحقيقه، مستعيناً بالولايات المتحدة الأمريكية ودبلوماسيتها النشطة، وهو ما عبر عنه نتنياهو خلال مناقشاته لتوجيه ضربة لإيران بالقول: إنها فرصة تاريخية خلال اتصال جمعه بالرئيس الأمريكي جو بايدن لمناقشة الهجوم على إيران وآفاق العملية العسكرية في لبنان وقطاع غزة.
مشروع نتنياهو لشرق أوسط جديد يفترض إضعاف كل القوى الإقليمية التي تمثل تحدياً للهيمنة «الإسرائيلية»، وعلى رأسها إيران وتركيا ومصر، وتهميش دورها بالقوة العسكرية أو القوة الناعمة بتعميق أزماتها الداخلية والاقتصادية بما يضمن الهيمنة «الإسرائيلية» المدعومة أمريكياً، في حين برز دور الهند كشريك باعتبارها عملاقاً ديموغرافياً واقتصادياً قطع صلته الحضارية بالعرب والمسلمين، وقام على أنقاضها لصالح قومية جديدة تستند إلى الموروث الهندوسي عبر عنها حزب بهاراتا جاناتا الهندوسي اليميني المتطرف، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي.
ختاماً، مشروع نتنياهو إحياء حقيقي وفج لمشروع لم يكن أكثر وضوحاً من الآن في إنتاج شرق أوسط «إسرائيلي» بأبعاد ثقافية تستهدف هوية المنطقة، وأبعاد اقتصادية تضمن السيطرة والهيمنة «الإسرائيلية» باعتبارها محوراً لأي عملية تنمية أو مشروع اقتصادي، وأبعاد أمنية بإنشاء تحالف عسكري وأمني بزعم وجود مشروع إيراني يتهدد أمن الدول واستقرارها يمتد من غزة إلى طهران واليمن، وتأطير ذلك كله ببناء منظومة سياسية منضوية تحت إطار ما عرف باتفاقات التطبيع والسلام الإبراهيمي الذي روج له وسوق باعتباره المستقبل المنظور للمنطقة، وهو مشروع تعرض لعطب كبير بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 كتوبر التي بددت مشروع الشرق الأوسط «الإسرائيلي» وحولته إلى مشروع استنزاف عميق للنفوذ «الإسرائيلي» والأمريكي بردود فعل على «طوفان الأقصى» أخرجته من سياقه الإستراتيجي الفعال.