«يا منكر، يا نكير، هو مسلم لكنه نسي»، واحدة من العبارات الحزينة جدًا التي كان المسلمون في الأندلس يدفنونها مع أحبابهم بعدما حولتهم محاكم التفتيش قسراً إلى نصارى، قبل كل شيء، سترى المغتصب ضيفًا ثقيلاً استقبلته بنفسك، ثم استقوى عليك، ثم سيقاسمك أرضك، ثم سيقترح عليك اتفاقات وعهودًا، ثم ستقبل بها أو لا تقبل، ثم سينقض المواثيق وسيأكلك بدون ملح،
وبين معاهدة غرناطة وأوسلو ضاعت بلاد المسلمين، ونداءات أهل غرناطة لإخوانهم في شمال أفريقيا والمغرب العربي الذين اكتفوا ببرقيات سرية لتعليم الأندلسيين طرق التقيّة لإخفاء إسلامهم، ما أشبهها بنداءات أهل غزة لجيرانهم في مصر والأردن وللمسلمين في بقاع العالم كافة، حيث لا حياة لمن تنادي.
في ظلال الذكرى الأولى لمعركة «طوفان الأقصى»، ومع اشتداد الأزمات التي تواجهها فلسطين اليوم، تتجلى أمام أعيننا مقارنة تاريخية مهمة بين ما يحدث الآن على أرض فلسطين وما جرى في الأندلس قبل 5 قرون، الأندلس، التي كانت مركزًا للحضارة الإسلامية في الغرب، سقطت نتيجة لانقساماتها الداخلية وتواطؤ بعض حكامها مع العدو، وبالطبع غياب النصير، فهل نسمح أن تلقى فلسطين المصير ذاته؟ أم نستلهم الدروس من الماضي ونحول مسار التاريخ لصالحنا؟
منذ سقوط آخر معقل إسلامي في الأندلس عام 1492م، بدأ مسلسل الاضطهاد والتهجير، حيث عاش المسلمون في الأندلس مأساة «محاكم التفتيش» والإبادة الثقافية والدينية، الموريسكيون تعرضوا لمحاولات محو هويتهم، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما يحدث في فلسطين اليوم، حيث تتكرر ذات المأساة، الاحتلال «الإسرائيلي» يمارس سياسة التهجير والاستيطان، ويسعى لطمس الهوية الفلسطينية من خلال فرض روايات تاريخية مزورة، وتغيير الواقع الديموغرافي لصالحه.
ما يميز سقوط الأندلس ليس فقط قوة العدو، بل أيضًا خيانات بعض أمراء الطوائف الذين اختاروا التحالف مع الممالك المسيحية طمعًا في السلطة والثروة، تنازلوا عن قلاعهم ومدنهم، ودفعوا الجزية لملوك إسبانيا، متناسين أن مصيرهم سيكون كمصير إخوتهم الذين سبقوهم في السقوط، واليوم، نشهد مظاهر مماثلة في العالم العربي والإسلامي، حيث تتسابق بعض الدول على التطبيع مع الاحتلال «الإسرائيلي»، طمعًا في مصالح اقتصادية وسياسية مؤقتة تزيد من تعقيد المشهد الفلسطيني وتؤجل استعادة الحقوق المشروعة.
في الأندلس، حُرم المسلمون من ممارسة دينهم وشعائرهم، وحرقت الكتب العربية في ساحات غرناطة، وكان ذلك رمزًا لمحاولة محو كل أثر للحضارة الإسلامية، وعلى الرغم من هذه الممارسات، ظل غالبية الموريسكيين متمسكين بهويتهم حتى اضطروا إلى الهجرة أو الموت، فيما نسيت الأجيال التي صمدت أنها في الأصل تعود لجذور إسلامية، كذلك في فلسطين، يواجه الشعب الفلسطيني ذات المخططات، الاحتلال لا يكتفي بمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، بل يسعى أيضًا لتهويد القدس وتغيير الهوية الثقافية والدينية للأماكن المقدسة، سياسة التهجير القسري التي مورست على الفلسطينيين منذ النكبة تتواصل حتى يومنا هذا، حيث يواجه أهل القدس وسكان الضفة الغربية تهديدًا دائمًا بالإخلاء، ناهيك عن ملايين الفلسطينيين اللاجئين في كل العالم منذ العام 1948م.
في المقابل، وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، ظلت هناك مقاومة في الأندلس، تمامًا كما هي الحال في فلسطين اليوم، ثورات الموريسكيين، رغم ضعفها وتشتتها، كانت تعبيرًا عن رفضهم للإبادة الثقافية والدينية التي تعرضوا لها، كما هي حال المقاومة الفلسطينية اليوم، التي تشكل خط الدفاع الأخير ضد محاولات الاحتلال «الإسرائيلي» لطمس الوجود الفلسطيني.
إن معركة «طوفان الأقصى» التي انطلقت في عام 2023م، شكلت نقطة تحول في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، حيث أظهرت أن الشعب الفلسطيني قادر على التصدي للمشروع الصهيوني رغم التفوق العسكري والتكنولوجي «الإسرائيلي»، المقاومة ليست مجرد عمل مسلح، بل هي تعبير عن الإرادة الصلبة للبقاء والصمود في وجه محاولات التهجير والإبادة، لكن هذه المقاومة تواجه نفس مصير المقاومة في الأندلس، حين انفض عنها أمراء الطوائف وتواطؤوا ضدها، وهو ما نرى ملامحه اليوم.
فالمقاومة الفلسطينية تعاني من ملاحقات وترهيب وتجفيف موارد من محيطها العربي والإسلامي أكثر مما تعانيه من المحتل نفسه، في استجابة للإرادة الدولية المعادية للمقاومة الفلسطينية، والرافضة لمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وهذا يعيدنا إلى ذات التواطؤ الذي عانته الأندلس، حيث تواطأ العالم المسيحي مع ملوك إسبانيا في القضاء على الوجود الإسلامي، الباباوات في روما كانوا يباركون هذه الحملات، ويساهمون في نشر الدعاية التي صورت المسلمين كأعداء يجب استئصالهم، هذا التواطؤ ساهم في إطالة أمد معاناة المسلمين في الأندلس، وأدى في النهاية إلى انهيار الحضارة الإسلامية هناك.
اليوم، نرى تواطؤًا مشابهًا من قبل بعض القوى الدولية مع «إسرائيل»، الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تواصل دعمها اللامحدود سياسيًا وعسكريًا، وتستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لعرقلة أي قرار يدين ممارسات الاحتلال، هذه السياسات تجعل من الصعب على الفلسطينيين تحقيق أي تقدم في مسار نضالهم الدولي، وتزيد من تعقيد الوضع الميداني على الأرض.
إن التشابه الكبير بين مآسي الأندلس وفلسطين يجب أن يدفعنا إلى التفكير العميق في مستقبل القضية الفلسطينية، فكما ضاعت الأندلس نتيجة الخيانات والانقسامات والتواطؤ، هناك خطر حقيقي بأن تواجه فلسطين المصير ذاته إذا لم يتم التصدي لهذه التحديات بجدية، حالة الاستفراد بغزة والقدس اليوم قد تعيد مأساة التاريخ التي عشناها مع الأندلس، صحيح أن فلسطين اليوم تمتلك أدوات جديدة لم تكن متاحة في الماضي؛ وسائل التواصل الحديثة، والقوة المتزايدة للرأي العام العالمي، ووجود محور رافض للوجود الصهيوني في المنطقة، ووعي شعبي عام متقدم حتى على الحكام، وهي أدوات يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في فضح ممارسات الاحتلال وكسب الدعم الدولي، المعركة لم تعد مقتصرة على الأرض فقط، بل هي أيضًا معركة على الوعي والفهم.
إن عدم تكرار مأساة الأندلس في فلسطين يتطلب وحدة الصف الفلسطيني والعربي ونبذ الخلافات المذهبية والطائفية والجانبية، ورفض كل أشكال التطبيع مع العدو، يتطلب أيضًا مواصلة المقاومة بكل أشكالها، وعدم الاستسلام للضغوط الدولية التي تسعى إلى فرض حلول مؤقتة لا تحقق العدالة.
فلسطين اليوم تقف على مفترق طرق؛ بين خيار المقاومة والصمود، وخطر التحول إلى أندلس جديدة، التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تقاوم وتتمسك بهويتها وثقافتها لا يمكن أن تموت مهما كانت الظروف، كما صمد الموريسكيون في الأندلس لقرون، سيظل الشعب الفلسطيني يقاوم حتى يتمكن من استعادة حقوقه كاملة، ولكن هذه المقاومة تتطلب منا جميعًا أن نكون أكثر وعيًا بالتحديات التي تواجه فلسطين، وأكثر تصميمًا على منع تكرار مأساة الأندلس.
لن تكون فلسطين أندلسًا أخرى طالما أن هناك شعبًا يقاوم، وأمة تستيقظ، وإرادة لا تموت.