قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَاعَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَرْضًا بِتِسْعِينَ أَلْفًا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْقَرْضَ فَلْيَأْتِ، فَأَقْرَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَطْلَقَ الْبَاقِيَ، ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَلَّ عُوَّادُهُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: إني أرى قلة من عادني فِي مَرَضِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ مِنْ أجل مالي عَلَى النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِصَكِّهِ المكتوب عليه، فوهبهم ماله عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَلَيْهِ دِينٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عتبة بابه من كثرة العواد(1).
في هذا الموقف بيان لأهمية السماحة وأثرها في حياة الناس، فما السماحة؟ وما فوائدها؟
تعريف السماحة
تطلق السماحة في معاجم اللغة العربية على اللين واليسر والسهولة(2)، وهي تعني في الاصطلاح: بذل ما لا يجب تفضلًا(3)، ويمكن أن يقال: إن السماحة هي التفضل بالعطاء مع القدرة على منعه، أو التفضل بالمنع مع القدرة على العطاء، أما التفضل بالعطاء فيكون في أبواب الخير، وأما التفضل بالمنع فيكون في جانب الشر،
وتنبني السماحة على العديد من الصفات الأساسية في الإنسان كالكرم والجود والصفاء وسلامة القلب وغيرها.
فوائد السماحة
أولاً: نيل محبة الناس:
الناس يميلون إلى من يحسن إليهم، بل إن الإنسان أسير الإحسان، ورحم الله أبا الفتح البستي حيث قال:
أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ فطالَما استبَعدَ الإنسانَ إحسانُ
وإنْ أساءَ مُسيءٌ فلْيَكنْ لكَ في عُروضِ زَلَّتِهِ صَفْحٌ وغُفرانُ
ثانياً: نيل محبة الله:
روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ يحبُّ سَمحَ البَيعِ، سَمحَ الشِّراءِ، سَمحَ القَضاءِ».
ثالثاً: نيل رحمة الله:
روى البخاري عن جابر بن عبدالله أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، ففي الحديث دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل من كان سمحاً في بيعه وشرائه وقضائه.
رابعاً: تحصيل الإيمان:
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه عن الإيمان وأركانه وشروطه، حتى يتحققوا بها، بل إنهم سألوه عن أفضل الإيمان، ففي صحيح الجامع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضلُ الإيمانِ الصبرُ والسماحةُ»، وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدريّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل المؤمنين رجل سمح البيع، سمح الشّراء، سمح القضاء، سمح الاقتضاء».
خامساً: ضمان أن تجد من يعاملك بسماحة في الدنيا والآخرة:
معلوم أن الجزاء من جنس العمل، فمن كان سمحاً فإن الله تعالى يسخر له من يكون سمحاً معه، فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمح يسمح لك»، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْكُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
سادساً: مغفرة الذنوب:
روى الترمذي عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى».
سابعاً: النجاة من كرب يوم القيامة:
روى البخاري، ومسلم عن حذيفة قال: «أتى الله بعبد من عباده، آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدّنيا؟ قال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً قال: يا ربّ! آتيتني مالك، فكنت أبايع النّاس، وكان من خلقي الجواز (أي التسامح والتساهل في البيع والاقتضاء) فكنت أتيسّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحقّ بذا منك، تجاوزوا عن عبدي».
وروى مسلم عن عبدالله بن أبي قتادة؛ أنّ أبا قتادة طلب غريماً له فتوارى عنه، ثمّ وجده، فقال: إنّي معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفّس عن معسر، أو يضع عنه»، وروى أبو داود عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته».
ثامناً: الوقاية من النار:
روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بمن يحرم على النّار، أو بمن تحرم عليه النّار: على كلّ قريب هيّن سهل»، وروى أحمد في مسنده بسند صحيح أن رجلاً يُلقى في النار فيُقال له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا غير أني كنت أسامح الناس في البيع والشراء، فيقول الله عزَّ وجلَّ: «اسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي».
تاسعاً: الدخول في ظل العرش يوم القيامة:
من السماحة أن ييسر الدائن على المدين فيمد في أجل الدين من غير زيادة أو يضع الدين عن المدين، فمن فعل ذلك أظله الله في ظله يم القيامة، ويدل على هذا ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عنْه، أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ».
عاشراً: دخول الجنة:
ليس للمسلم غاية يرجوها أعظم من دخول الجنة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من تحلى بالسماحة كان من أهل الجنة، فقد روى أحمد في مسنده عن عب الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخل رجل الجنّة بسماحته قاضياً ومتقاضياً».
_____________________
(1) البداية والنهاية: ابن كثير (8/ 108).
(2) لسان العرب: ابن منظور (2/ 490)، وانظر: مختار الصحاح، ص 153.
(3) التعريفات: الجرجاني، ص 121.