بزغ نور النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا قبل أن يولد، ورأى الناس نوره صلى الله عليه وسلم يوم ولادته، وظل نوره ثابتاً يصفه الواصفون ويذكره الذاكرون، وأثبت القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم نور جاء ليكون سبباً في هداية الخلق، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، آمن به البعض وأعرض عنه البعض، فكان تكريماً للمؤمنين به، المقبلين على رسالته شرف أن ينالوا من نور النبي صلى الله عليه وسلم نوراً حسياً، كان لهذا النور أسباب، منها:
أولاً: دعوة الناس إلى ما جاء به النبي:
كان الطفيل بن عمرو أحد مَن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعهد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه إلى الإسلام، غير أنه سأله علامة تدل على سلامة ما يدعو إليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له فكان نوراً في جبهته، فسأل الطفيل ربه أن يجعل النور في غير هذا الموضع فكان في نهاية سـوطه.
سُمِّيَ الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرِو بنِ طَرِيْفٍ ذَا النُّوْرِ؛ لأَنَّهُ قَالَ: يَا رسول الله، إن دوساً قد غلب عليهم الزنى فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِم، قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً»، ثُمَّ قَالَ: يَا رسول الله، ابْعَثْ بِي إِلَيْهِم وَاجْعَلْ لِي آيَةً فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَوِّرْ له»(1).
وذلك أن الطفيل لما أراد الإسلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعْرِضْ عَلَيَّ دِيْنَكَ، فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي أَرْجِعُ إِلَى دَوْسٍ وَأَنَا فِيْهِم مُطَاعٌ وَأَدْعُوْهُم إِلَى الإِسْلَامِ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهِم، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً، قَالَ صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً تُعِيْنُهُ».
فَخَرَجْتُ حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى ثَنِيَّةِ قَوْمِي، وَأَبِي هُنَاكَ شَيْخٌ كَبِيْرٌ وَامْرَأَتِي وَوَلَدِي، فَلَمَّا عَلَوْتُ الثَّنِيَّةِ وَضَعَ اللهُ بَيْنَ عَيْنَيَّ نُوْراً كَالشِّهَابِ يَتَرَاءاهُ الحَاضِرُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَأَنَا مُنْهَبِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ في غير وجهي فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ لِفِرَاقِ دِيْنِهِم فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسِيْرُ عَلَى بَعِيْرِي إِلَيْهِم وَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ سَوْطِي كَأَنَّهُ قِنْدِيْلٌ مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَأَتَانِي أَبِي فَقُلْتُ إِلَيْكَ عَنِّي فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أَسْلَمْتُ وَاتَّبَعْتُ دِيْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! دِيْنِي دِيْنُكَ، وَكَذَلِكَ أُمِّي فَأَسْلَمَا، ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْساً إِلَى الإِسْلَامِ فَأَبَتْ عَلَيَّ وَتَعَاصَتْ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: غَلَبَ عَلَى دَوْسٍ الزِّنَى وَالرِّبَا فَادْعُ عَلَيْهِم فَقَالَ: “اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً” ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِم، وَهَاجَرَ النبي صلى الله عليه وسلم فأقمت بين ظهرانيهم أدعوهم إلى الإسلام، حتى اسْتَجَابَ مِنْهُم مَنِ اسْتجَابَ(2).
فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بالنور الحسي قال عنه الطفيل: يتراءاه الحاضر في ظلمة اليل، كما وصفه بأنه قنديل معلق، وكان سبب هذا النور إصرار الطفيل على دعوة قومه إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الأنس بالنبي:
الأنس: يعني الصحبة الدائمة للمحبوب، والقرب الملازم له، والطمأنينة بالجلوس معه، والإكثار من ذكره، والعمل بنصحه وإرشاده؛ أي صفيه وأنيسه وخاصته، وهكذا كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، منهم من استأنس بالنبي صلى الله عليه وسلم واستجاب لنصحه، فنال من نوره الحسي ما أبعد عنه الضرر.
من هؤلاء سيدنا قتادة بن النعمان الذي قال: خرجت ليلة من الليالي مظلمة، فقلت: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الصلاة، وآنسته بنفسي، وفي لفظ: فقلت: لو أني اغتنمت شهود العتمة -صلاة العشاء-مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعلت، فلما دخلت المسجد برقت السماء، فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا قتادة، ما هاج عليك؟»، قلت: يا رسول الله، أردت بأبي أنت وأمي أن أؤنسك.
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عرجون، قال: «خذ هذا العرجون فتحصن به، فإنك إذا خرجت أضاء لك عشراً أمامك، وعشراً خلفك، وإن الشيطان قد خلفك في أهلك، فاذهب بهذا العرجون، فأمسك به حتى تأتي بيتك، فخذه من زاوية البيت»، ثم قال لي: «إذا دخلت بيتك -تجد- مثل الحجر الأخشن في أستار بيتك، فإن ذلك الشيطان»، قال: فخرجت فأضاء لي العرجون مثل الشمعة فاستضأت به، فأتيت البيت فوجدتهم قد رقدوا، فنظرت في الزاوية، فإذا فيها قنفذ فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج(3).
فكان قرب سيدنا قتادة من النبي صلى الله عليه وسلم وأنسه به، وملازمته له، سبباً في أن ينال من نور النبي ما أضاء له الطريق، وأبعد عنه الشيطان.
ثالثاً: كثرة مجالسة النبي:
إن حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيمانهم به، وتصديقهم له، جعلهم يكثرون مجالسة النبي ليلاً ونهاراً؛ يتعلمون منه أمور دينهم، فربما طال جلوس أحدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً حتى تصبح الليلة عتمة من شدة ظلامها، فلا يضيء للجالس مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته إلا نور يمده النبي صلى الله عليه وسلم به، فعن أنس بن مالك: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عنده صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله(4).
وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر، سمرا عند أبي بكر يتحدثان عنده حتى ذهب الليل، ثم خرجا، وخرج أبو بكر معهما جميعاً في ليلة مظلمة مع أحدهما عصا، فجعلت تضيء لهما، وعليهما نور حتى بلغوا المنزل(5).
وعن أنس: أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجلاً آخر من الأنصار تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، حتى خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم ينقلبان، وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فصار كل واحد منهما في ضوء عصاه، حتى بلغ أهله(6).
____________________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 208).
(2) الاستيعاب (2/ 107).
(3) رواه الطبراني (19/ 5).
(4) رواه البخاري (3639).
(5) سبل الهدى والرشاد (10/ 279)
(6) رواه البخاري (3805).