لم يكن مفهوم «تجديد الخطاب الديني» يوماً جديداً على المسلمين منذ العهد النبوي، إذ لطالما كان مرتبطاً بتعاليم الدين نفسه، باعتبار أن التجديد هو عملية دورية ضرورية لإزالة ما علق بأفهام الناس من أضاليل وأباطيل، يظنونها ديناً، وهي ليست منه، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه أبو داود)، غير أن التوظيف الإعلامي والسياسي لدعوى التجديد في عصرنا يستدعي الحذر من كمين قد ينخدع فيه كثير ممن غاب عنهم التحصين الشرعي.
فالحديث النبوي يضع حجر الأساس لفكرة أن الإسلام، باعتباره دينًا صالحًا لكل زمان ومكان، يحتاج إلى تجديد في فهم النصوص بما يتناسب مع تطورات الزمن دون أي مساس بثوابت الإيمان والشرع، بينما يسعى دعاة التجديد التضليلي إلى تفكيك الأسس الدينية تحت مسمى الحداثة أو التنوير.
يعلمنا القرآن الكريم أن الحيلة الإبليسية المتكررة في تزيين الباطل هي الدعاية عبر تسمية الباطل بغير اسمه، فالشجر المحرمة في وسواس الشيطان لآدم عليه السلام هي شجرة الخلد، والخمر المحرمة في كتاب الله هي في دعاية الضلال مشروبات روحية، وهكذا يصبح الحرام حلالاً والباطل حقاً لغير المحصن معرفياً.
إن التجديد في الإسلام عملية فقهية، كما حددها الحديث النبوي، وتهدف إلى توضيح المفاهيم الدينية بما يتماشى مع تغيرات الزمان والمكان، ومحاولة تطبيق المبادئ الإسلامية على قضايا معاصرة مع المحافظة على روح الشريعة وثوابتها، وإعادة تنزيل النصوص الشرعية على المستجدات، وهو ما يُعرف في تراثنا بـفقه الواقع.
ووفق هذا المعنى، فأي دعوة إلى تجديد تمس الأصول هي دعاية إبليس إلى شجرة خلد جديدة، أما الاجتهاد فيعرفه العلماء كأحد أساليب التجديد، وهو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها (القرآن، السُّنة، الإجماع، والقياس) بما يتوافق مع الأوضاع المستجدة، وقد أظهر هذا الفهم، على مر العصور، كيف أن الإسلام كان دائمًا قادرًا على التجدد والتكيف مع التحولات الحضارية.
وفي عصر العولمة وتطورات التكنولوجيا والإعلام، أصبحت المجتمعات أكثر تداخلًا، وباتت الأفكار تنتقل بسرعة لحظية، ما يفرض على المسلمين مواجهة مسائل جديدة تتطلب إجابات شرعية تتعلق بقضايا مثل حقوق المرأة، والديمقراطية، والحرية الشخصية، وهي ليست قضايا محلية فحسب، بل أصبحت موضوعات تفرض نفسها عالميًا وتحتاج إلى خطاب ديني يجمع بين الأصالة والمعاصرة من أهل العلم.
لكن واقعنا بكل أسف يشير إلى تقصير جسيم في هذا الجانب؛ ما سمح بتسلل دعايات التجديد العلمانية استغلالاً لحالة فراغ خلافاً لتجاهل الخطاب الديني التقليدي لتطورات العصر أو لمقتضيات الواقع، وهو ما حذر منه سلطان العلماء، العز بن عبدالسلام، رحمه الله، بقوله: من نزل بقريةٍ فشا فيها الربا فخطب عن الزنى فقد خان الله ورسوله!
ضوابط ضرورية
لكن كيف يمكننا ضبط عملية التجديد التي تحمي الدين من الانحراف، وفي الوقت نفسه تجعله قادرًا على الاستجابة لتحديات العصر؟ أول تلك الضوابط تحديد الثابت والمتغير في مساحات دلالة النصوص الشرعية، سواء المتعلقة بالعقيدة أو العبادات أو المعاملات، فالثابت لا يجوز الاجتهاد فيه تحت مسمى التجديد، لأنه وحي قطعي الثبوت والدلالة، وهو ما جاء توجيه القرآن فيه بقوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43).
هذه النصوص هي محكم الكتاب، وتشكل الأساس الذي يُبنى عليه أي تجديد في المسائل الأخرى، والتجديد الذي يجب أن يكون مستندًا إلى اجتهاد الراسخين في العلم وليس أفراداً غير مختصين أو مروجين لآراء شاذة أو خروج عن إجماع الأمة.
وهنا يبرز دور المؤسسات الدينية والفقهية في الحفاظ على توحيد الرؤى والابتعاد عن حالة الفوضى الفقهية التي تستهدفها دعاية التجديد العلمانية، وهو توحيد يعود بالنص إلى مقاصد الشريعة، التي تهدف إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
وإذا كان التجديد يسعى إلى تحقيق المصلحة الفقهية دون تجاوز الحدود الشرعية، فإنه يحقق التوازن المطلوب بين التمسك بالأصول والاستجابة للمتغيرات، وفي ضوء ذلك يمكن القول: إن تجديد الخطاب الديني هو ضرورة شرعية بقدر ما هو كمين علماني.
فالخطاب الحداثي يسعى إلى علمنة الدين، أي تقليص دوره في الحياة العامة وحصره في الشؤون الشخصية عبر تحريف مفاهيم نصوصه؛ ما يجعل التجديد ذريعة لتفكيك الدين من داخله، تحت مسمى التنوير، وهو ليس سوى شجرة خلد جديدة تنطوي على تزوير الدين.
يرتبط الأمر إذن بالقدرة على تحقيق التوازن بين الحفاظ على هويتنا الدينية، والتجاوب مع متطلبات العصر، والتجديد من هذا المنظور ضرورة بشرط القيام به من المختصين ووفق ضوابط واضحة تحمي الدين من الانحراف وتضمن استمراريته كمنهج حياة شامل يصلح لكل زمان ومكان، مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153).
إن التجديد الذي ينبع من فهم صحيح للشرع ويتماشى مع مقاصد الشريعة هو سُنة الله في ضمان استمرار الإسلام كدين حي وحضاري، بينما التجديد الذي يسعى لإرضاء القوى الخارجية أو الفكر العلماني هو فقدان للهوية، وعلى المسلمين أن يكونوا يقظين حيال محاولات تحريف دينهم بأشجار الخلد المزخرفة.