تتنوع رؤى الناس في النظر إلى قوة أعدائهم، فمن الناس من يبالغ في الاستهانة بقوة عدوه، ومنهم من يهول منها، والتهويل هو المبالغة والتعظيم والتشنيع في الأمر بغرض التخويف(1)، ومنهم من يتوسط في ذلك، فلا يحتقر شأن عدوه كما لا يبالغ في تعظيمه، بل يقدر الأمور حق قدرها، فيعد لهذا العدو العدة اللازمة التي تسهم في حسن مواجهته والانتصار عليه، دون خوف أو فزع، وهذا هو الصواب؛ إذ التهويل من شأن العدو يستدعي العديد من الأخطار، منها:
أولاً: الهزيمة النفسية:
يؤدي استعظام قوة الأعداء إلى الخوف منهم، والضعف أمامهم، والإحجام عن مواجهتهم، والاستسلام لهم، وهذه هي الهزيمة النفسية التي نهى الإسلام عنها، فالذي يجب أن يستقر في الأذهان أن النصر والتأييد بيد الله وحده، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126)، والله تعالى يؤيد المؤمنين بجند من عنده، قال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (الفتح: 7)، بل إنه تعالى يثبت المؤمنين ويلقي الرعب في قلوب الكافرين، حيث يقول عز وجل: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12).
إن هذا التأييد الرباني والنصر الإلهي لا يحتاج إلا إلى فئة من المؤمنين، تنصر دين الله رب العالمين، وتعد ما استطاعت من قوة لمواجهة أعدائها، والله يمدها بالنصر المبين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 62).
ثانياً: الاستجابة للمنافقين والمثبطين:
يعمد المنافقون والمثبطون في حالات الخوف إلى التأثير على المؤمنين، وإيهامهم أن العدو يمكن أن يقضي عليهم أو يستذلهم، ثم يستدعون نوازع النفس البشرية وميلها إلى الحياة والتمتع بزينتها؛ مما قد يؤثر على نفس المؤمن، فيستجيب في حالة الضعف إلى تثبيطهم وتخذيلهم، وقد حذّر القرآن من ذلك في قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81)، وقال عنهم الله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47).
ثالثاً: التثاقل إلى الأرض:
يؤدي الخوف والرعب من قوة الأعداء إلى التخلي عن الجهاد، والركون إلى الدعة والخمول، والتكالب على الدنيا والحرص على متعها، وهذا يعرِّض المسلمين للهزيمة، ويضعف قوتهم وهيبتهم؛ مما يؤدي إلى تمكن الأعداء منهم واستباحة بيضتهم، ولهذا حذّر الله تعالى المؤمنين من التثاقل إلى الأرض والرضا بالدونية، وتوعدهم إن فعلوا ذلك بالعذاب الأليم، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة).
رابعاً: التولي يوم الزحف:
إذا تمكّن الخوف من العدو في قلب الإنسان؛ فإنه يفرّ من الميدان، وقد يظن الفارّ أن ذلك يطيل عمره وينفعه بحياة أطول، وعيش ألين، ومتع ألذّ، لكن هذا سراب وخسار، قال تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب: 16).
وعندما نهى الله تعالى عن التولي يوم الزحف منعه تماماً إلا إذا كان ذلك في خطة قتالية تستدعي الكر والفر، أو بسبب الانحياز إلى فئة تقاتل في سبيل الله، وكلاهما لا يعد فراراً من القتال، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال).
كما عدّ النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من الكبائر الموبقات، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ».
خامساً: الإحباط واليأس:
تسيطر حالة من حالات اليأس والقنوط على المبالغ في الخوف من قوة عدوه، وبخاصة في أوقات انتصار الأعداء، عندئذ يكثر اللوم والنزاع، والشعور بالفشل واليأس(2)، لكن الإسلام حذّر من ذلك، ودعا المسلم إلى التمسك بالأمل واليقين في نصر الله تعالى، وتوعد اليائسين بالضلال المبين، حيث قال تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال عز وجل: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56).
وقد عالج الرسول صلى الله عليه وسلم ما أصاب أصحابه بعد انكسارهم في غزوة «أُحد» بالحث على الصبر والتمسك بالإيمان والأمل، حيث أنزل الله تعالى قوله: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران).
كما حثهم الله تعالى على الصمود والاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج لملاحقة المشركين في حمراء الأسد(3)، وأثنى عليهم حين خرجوا، فقال: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 172)، فالمؤمن لا يضعف أمام عدوه، بل يصبر ويصمد ويقوي من عزيمته بالإيمان وحسن الإعداد، حتى يعينه الله تعالى وينصره.
_______________________
(1) تاج العروس: للزبيدي (31/ 168).
(2) طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف، ص 114.
(3) سيرة ابن هشام (2/ 121).