وهل حقا يُصْنَعُ الأمل؟! نعم، إنَّه ليُصنع، بل يُزرع في النفوس زرعاً إن وُجِدَت لهُ اليدُ الخبيرة الصناع التي تحسن خلقه في أحسن تقويم، فتهفو إليه قلوب المتطلعين، وتشرئب نحوه أعناق الجادين المغذين، وتلتفت إليه رغماً عنها عيون الغافلين السادرين، فلا يلبث من بعد حتى يكون عقيدة في النفوس تعض عليه بالنواجز شأنها مع كل ثمين وعزيز، ساعين في سبيل الوصول إليه مهما كانت الصعاب، باذلين فيه كل غالٍ ونفيس مع كامل الاستبشار والرضا والسعادة والتسليم.
هؤلاء أتقنوا فن صناعة الأمل
إن القادة الكبار الذين تركوا بصمات واضحة على مصائر شعوبهم هم أولئك الذين أحسنوا صناعة الأمل، أو ما يعرف لدى دارسي السياسة في بعض تعريفاته بالمشروع القومي الجامع لشتات أفراد الأمة وطاقاتها، إذ يحسنون بمواهبهم الفذة جمع قدرات وطاقات وعزائم شعوبهم حول ذلك الأمل يروون شجرته بدمائهم الذكية، وسعيهم الدؤوب، وعرقهم الغزير حتى يصبح حقيقة واقعة يتفيأ ظلالها الجميع في سعادة وأمن واطمئنان.
وإن المربين المتميزين الأفذاذ هم أولئك الذين أحسنوا ويحسنون صناعة الأمل وغرسه في نفوس من يربونهم، وتعهده في أنفسهم ليظل دافعا قوياً من دوافع سلوكهم نحو المعالى حتى يثمر ذلك السعي والتعهد تحقيقاً للغايات التي يسعد بها إذ يسعى نحوها المربى والمتربي معاً.
وكان نبينا العظيم إماماً في فن صناعة الأمل وغرسه، ولم يكن عبثاً أن يغرس النبي الكريم الأمل في نفوس أصحابه وهم يصطلون نيران الكفار عذاباً ممضاً لا يهدأ له أوَارٌ حتى لتبلغ به القلوب الحناجر، ويكاد المرء لا يجد له في قوس الصبر مَنْزَعاً.
حين أتاه خبَّاب بن الأرتِّ يوماً وهو مُتُوَسِّد ببردته في ظل الكعبة يسأله أن يدعو له، ولإخوانه أن يرفع الله عنهم كأس العذاب الذي يصبه فوق رؤوسهم كفار مكة صباً، يعطيه درسين عظيمين مما ينبغي أن يعض عليه الدعاة إلى الله في كل عصر بالنواجد؛ درس الثبات مهما كانت الصعاب والنوازل والعقبات، ودرس الأمل في المستقبل والنصر المُرتَقَب فيه حيث لا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس، وأما الزبد فيذهب جُفاء.
حاجتنا الدائمة إلى الأمل
نحن في حاجة إلى الأمل لنعيش، ونسعد بهذه الحياة، وحين يخبو نور الأمل المتلالئ في عيوننا يخبو معه معنى الحياة في نفوسنا، وتصبح – من بعد- شقاء وتعاسة لا حدود لهما، فالأمل حارس لسعادتنا، وصانع لها في الوقت نفسه فهو شعلة خالدة لا ينبغي أن تنطفئ جذوتها.
والأمل شفاء، نعم شفاء لكثير من أدواء النفوس، بما فيها الأمراض العضوية التي يحتار الأطباء في وصف علاج لها، فلا تعالج بغير أمل يقوى في نفس المريض فيتغلب على مرضه، ويذوق معه معنى الصحة والعافية، وكم من حالات مَرَضِيَّة كانت ميؤوس منها لدى الأطباء نال أصحابها نعمة الشفاء والعافية حين تذرعوا بالأمل، وتشبثوا برغبة جامحة في الحياة، فكان في تلك المشاعر النبيلة العميقة ترياق الشفاء الذي حار في تفسيره الأطباء.
ولأمر ما، قرَنَ القرآنُ بين غياب شمس الأمل المشرقة في النفوس والكفر حيث قال: (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، فالكافر -والكافر فقط- هو من يتسرب اليأس إلى قلبه عند فوات مقصوده مرة تلو مرة، ولا يرى غير الأسباب الدنيوية وراء ما حدث له، فيأخذ منه الحزن كل مأخذ، حتى قد تقتله أحزانه وهواجسه أو تذهب بعقله واتزانه، فينهي حياته الثمينة بيديه.
أما المؤمن فهو متفائل دوماً يرى الجانب المملوء من الكأس لا الفارغ، ولا ينكر فضلَ ذي فضل، فيبتسم للحياة ويعتقد أن القادم أفضل، وأن غداً سيشرق بآمال جديدة تُبَدِّلُ سَيئ ما يعانيه من لأوائها حُسْنَاً.
أعداؤنا يقتلون الأمل قتلاً
إن عدونا اليوم يحاول ما وسعته الحيلة أن يقتل الأمل في نفوسنا بإمكانية استعادة أمتنا أو شعوب أمتنا لأسباب عافيتها لتنال مكانتها اللائقة تحت الشمس، ويحاول بكل وسيلة اختلاق أسباب الفوضى والحروب والمآسي التي تُلْقَى في نفوسنا شعوراً باللاجدوى وعبثية الحياة، ويقيناً خادعاً أن أسباب القوة في يد الغربي وحده أو الأمريكي يصرفها كيف شاء، فلا أمل إطلاقاً فيما نُمَنِّي به أنفسنا من انتصار لديننا وأمتنا، وما نتداوله من هذا ولو كان من رصيد النبوة، أو نتاج القراءة المستبصرة لخبرات الحياة والتاريخ، إن هو إلا أماني عذاب ندغدغ بها مشاعرنا، وكبرياءنا الجريحة ليس إلَّا.
بيد أن الأمل إذا قويَ في نفوسنا يقيناً بالحق الذي نحمله، والنور الذي نتبعه، والبشريات المتواترة التي بين أيدينا من صحاح ما ورد عن نبينا الكريم، فإن ذلك سيكون بمثابة الصخرة التي تتحطم عليها محاولات العدو التي لا تتوقف لإلقاء بذور الشك واليأس والوهن في نفوسنا.
شعلة الأمل تضئ طريق النصر، وتعصم من السقوط، ولَعَمْرُ الحقِّ إن كثيراً ممن تساقط على طريق السعي إلى الله والعمل لدينه، ولم تسعفه طاقاته أن يكمل المسير حتى نهاية الشوط إنما كان سقوطه –في بُعد من أبعاده- من جراء سقوط طاقة الأمل في نفسه، وعجزه عن أن يبقي تلك الشجرة المباركة –شجرة الأمل- يانعة في أعماقه تؤتي أكلها كل حينٍ ثباتاً ويقيناً واستبشاراً بأنَّ الغد القادم أفضل من الأمس القاتم، والحاضر الممض، وأن الفرج مع الصبر، وأن اليسر مع العسر، وأن ثمة ضوءاً هناك في نهاية النفق يدعونا لمواصلة الطريق، لاقتطاف ثمار البذل والصبر والمثابرة، حيثُ أقواسُ الانتصار وأكاليل الغار.