يحكي سيد قطب في «الظلال» تفسيرَ الأبعاد المتكاملة لجدلية الشخص والفكرة، وارتباط المشروع بالقيادة، وإمكانية اغتيال الرجل الأول في المسيرة، وقد نُقلت مشاهد هذه الأبعاد التصويرية الدقيقة عن غزوة «أُحُد» في سورة «آل عمران»، بعد أن انقلب النصر إلى هزيمة، وما سبب ذلك إلا حين ضَعُفت نفوس الرُّماة أمام إغراء الغنائم، فتنازعوا فيما بينهم، وانقسمت قلوبُهم على أهدافها ومقاصدها من الجهاد.
في تلك الواقعة أُشِيع خبر اغتيال القيادة، وما تركه ذلك من زلزال في النفوس، كأنهم لم يحسبوا لتلك الاحتمالية وُقوعًا، ولم يتصوَّروا أنَّ المعركة المفتوحة مشْرَعةٌ على كلِّ الاحتمالات، وأنَّ أهوال الطريق ثقيلةٌ ضريبتها، بما في ذلك واقعية هذا القتل، وما يرافقه من أسئلة جوهرية عن مصير المعركة، وعاقبة هذا النهج من بعده ومن دونه.
فينقل القرآن الكريم تلك المشاهد الحيَّة في حركة الميدان، وتلك المشاعر الداخلية في حركة النفوس، فيقول تعالى عن تلك اللحظة الحرجة: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) (آل عمران: 153).
فحركة الصعود إلى الجبل في ارتباك، ولقطة الهروب من المعركة في دهشة، ومن غير اشتباك، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للفارِّين من الميدان، تكشف حركة النفوس، وما يدور فيها من خواطر ومشاعر، في لحظةٍ مفعمةٍ بمفاجآت المعركة غير المتوقَّعة.
يقول قطب: يكشف لهم عن طرَفٍ من حكمة الله وتدبيره وراء هذه الآلام التي تعرَّضوا لها، ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة.
والعبارة القرآنية ترسم صورة حركتهم الحسية، وحركتهم النفسية في ألفاظ دقيقة، فهم يصعدون إلى الجبل هربًا في اضطراب، فلا يلتفت أحدٌ منهم إلى أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ليطمئنهم على حياته، بعدما أُشِيع أنَّ محمدًا قد قُتل، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم، في مشهدٍ مفزع، ينقل لنا حقيقة ذلك الوَقْع الذي هزَّ النفوس، واختزله التعبير القرآني البديع، في هذه الألفاظ القوية المُوحية، وبقوة جرسها الشديد.
ثم ينتقل التعبير القرآني، الجريء في النقد والمعالجة، ليرسم حدود الانضباط، وعواقب المخالفة، ونتيجة الاجتهاد، بعيدًا عن خُطط القيادة وأوامرها، فقال تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ)، وهو تصويرٌ أمينٌ لهذه التجربة النفسية، وهو تقريرٌ دقيقٌ لهذه الحالة الميدانية، التي كانت ساحتها المعركة النفسية والإعلامية، وهي الانهزام أمام الشائعات باغتيال القيادة، وحالة الذُّهول في لحظة الخلط بين مصيرها في عالم المادة، وبين مصير المشروع في عالم الأفكار، فكانت النهاية أنْ عاقبهم الله تعالى على ذلك الغمِّ الذي أحدَثوه في نفسه صلى الله عليه وسلم بغمٍّ يملأ نفوسَهم على ما صدَر منهم في حقِّه، فقد أصابه ما أهمَّه، وهو ثابتٌ دونهم، وهم فارُّون عنه تحت رحمة الإشاعة، في خلطٍ مستهجنٍ بين الذات البشرية والفكرة الإلهية.
إلا أنَّ أصحاب البطولة والشجاعة، وقادة المشاريع الكبرى يدركون أنَّ الموت بيد الله، وليس بيد غيره، وأنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجَلَها، وهو ما يجعل الاستشهاد في ميدان معارك الرجال أهْنَأ لهم من الموت كالبعير على فُرُش النساء، فلا نامت أعين الجبناء.
هذا الوصف القرآني المتكامل في إدارة الصراع الخارجي، ومعالجة الاختلالات النفسية في الصف الداخلي لها تمثُّلات واقعية في التجربة البشرية، كفواعل حقيقية في الميدان، فتذكُر كُتب السِّيرة النبوية الشريفة أنَّ أنس بن النَّضر انتهى إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيدالله في رجالٍ من المهاجرين والأنصار، في غزوة «أُحد»، وقد أُلقُوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل، وبه سُمِّي أنس بن مالك، قال أنس: لقد وجدنا بأنس بن النَّضر يومئذٍ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببناته.
وسبب هذه البطولة الاستثنائية، وهذا التميُّز المشهدي النادر، وهذه الحكمة في التصرُّف بهذه الشجاعة غير المعتادة، في مثل هذه الظروف الحرجة، والمرتبطة باغتيال القيادة، ما رواه أنسٌ أيضًا أنَّ عمَّه غاب عن غزوة بدر، فقال: غِبْت عن أول قتالٍ قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدًا ليرَيَن الله ما أفعل، فلَقِي يوم أُحُد، فهُزِم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (المسلمون)، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (المشركون)، فتقدَّم بسيفه، فلَقِي سعد بن معاذ، فقال: إلى أين يا أنس؟ فقال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، فمَضَى فقُتل، فما عُرِف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة، وبه بِضعٌ وثمانون، ما بين طعنةٍ وضربةٍ ورميةٍ بسَهْم، ومن فوائد هذه القصة الاستشهادية الجريئة، قال ابن القيم فيما يُستفاد منها: جواز الانغماس في العدو، كما انغمس أنس بن النَّضر وغيره.
لقد كان الإخراج الصهيوني لطريقة استشهاد القائد يحيى السينوار في تل السلطان، جنوب مدينة رفح، يوم الأربعاء 16 أكتوبر 2024م، مفاجئًا وصادمًا للجميع، ففي الوقت الذي أراد العدو الصهيوني الاحتفاء بهذا الإنجاز، وهو الوصول إلى العقل الأول، المهندس والمنفِّذ لمعركة «طوفان الأقصى»، بعد أكثر من سنةٍ كاملةٍ عن أكبر صدمةٍ إستراتيجية تلقَّاها هذا العدو يوم 7 أكتوبر 2023م في تاريخ وجوده منذ عام 1948م، فقد تسرَّع في تسريب المشاهد، التي أثبتت أنها بطولية نادرة، في هذه اللحظة الاستثنائية الفارقة، التي تحقَّقت فيها كرامة ما تمنَّاه الشهيد في حياته، بأن يستشهد على يد العدو الصهيوني، ولا يموت موتةً عادية.
فقد استشهد مُقْبِلاً غير مدبر، وفي حالة اشتباكٍ مباشرةٍ على مسافة الصفر مع العدو، في لحظةٍ أذهلت العالم بأسْره، بهذه النهاية المشرِّفة، لهذه المسيرة الحافلة، من هذا الأنموذج الرمز المُلهِم الموهوب.
لقد أسقط كلَّ السرديات الصهيونية المتهافتة، التي نُسِجت حوله في مخيال الدعاية الرخيصة، كالهروب من قطاع غزة، أو الاختباء في الأنفاق، أو اتخاذه الأسرى الصهاينة دروعًا بشريةً له، أو إدارة المعركة من الأماكن الأكثر تحصينًا وراحةً تحت الأرض.. وغيرها.
ليثبت للعالم بأنه قد انحاز إلى عسكريته في الصفوف الأمامية، يتنقل بين جبهات القتال، يدير المعركة بنفسه، لا يهاب الموت، ولا يتذرَّع بصفته السياسية المدنية، كرئيسٍ للمكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
لقد كانت أمنية الموت عنده تفوق رغبة الحياة لديه، وكأنه بشرٌ غيرُ عاديٍّ، وقد حرص على إيصال رسالته الأخيرة السَّامية، من وراء آخر أنفاسه الزكية، ليبُثَّ فينا روح الآيات الخالدات من البطولة، وكيف تُتلى معانيها في العالمين.
ويا له من مشهدٍ مهيب! ويا لها من خاتمةٍ عظيمة! وكأنه كان يسير إلى أسمى أمانيه بعنايةٍ إلهيةٍ مخصوصة، ليبقى حيًّا فينا مهما رحل جسده عنَّا.
لا شكَّ بأنَّ هذا الفَقْدَ مؤلمٌ وقاسٍ، تهتزُّ له النفوس المؤمنة، وتفتقده السَّاحات والميادين المجاهدة، كتاريخٍ نضاليٍّ طويل، وكعقلٍ ذكيٍّ متَّقد، وكرصيدٍ معرفيٍّ زاخر، وكتجربةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ ثرية، وكأنموذجٍ عمليِّ مُلْهِم.
إلا أنَّ عزاءنا فيه أنَّ هذا المصير المحتوم هو التتويج الطبيعي للقادة العِظام، وأنَّ بصماته على المقاومة والأمة باستشهاده ستكون أقوى وأصدق من تأثيراته وهو حي، وأنَّ الدروس التي كُتِب فصولها بدمه ستكون أكثرَ إلهامًا للمجاهدين والأجيال القادمة.
وإنَّ الصادقين مع مشروعه الجهادي التحرُّري لن يَسَعهم إلا كما قال أنس بن النَّضر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قُومُوا فموتوا على ما مات عليه».