في عالم مضطرب تجتاحه عواصف الحرب وتحديات الذكاء الاصطناعي وتأثيرات العولمة على الأخلاق، تبدو حاجة أمتنا الإسلامية للإعداد بكل ما أوتيت من قوة نحو مشروع حضاري حقيقي، يقوم على مرجعيتها الراسخة وحبل الله المتين وهو الدين الإسلامي، مع حركة اجتهاد كبرى لمواكبة العصر، في هذا الإطار، تؤدي المنابر الإسلامية الدعوية دوراً مهماً في حركة تجديد الخطاب الديني، ويبرز التساؤل: ما التحديات التي تواجهها المنابر الإسلامية للقيام بأمانتها الدعوية في عصر متغير؟
«المجتمع» التقت بالدكتور عادل عبدالله هندي، أستاذ الدعوة الإسلامية، عضو المكتب الفني لأكاديمية الأزهر العالمية لتدريب الوعّاظ والباحثين، في هذا الحوار.
لا يزال هناك من ينظر بريبة لقضية تجديد الخطاب الديني، فما رأيكم؟
– امتنّ الله تعالى على هذه الأمّة برسالة الإسلام التي تستوعب كل الأزمنة والأمكنة وجميع البشر بمرونة تامة من خلال أحكام هذا الدِّين، ونعلم أن أحكام الدين منها ما هو ثابت وقطعي لا يقبل التجديد لأنه مرتبط بالتنزيل الإلهي والوحي، وأي تشكيك فيه يعد محاولة لهدر صحيح الدين، وهناك أحكام قابلة للاجتهاد والرأي ومرتبطة بما استجدّ من حوادث، فيتم إعمال القياس والمصالح والاستحسان لاستنباط الحكم المناسب بما يضمن تحقيق مصلحة العباد مع عدم الاصطدام مع الشريعة.
والتجديد فريضة شرعية وضرورة حياتية واقعية؛ حيث إن الإسلام أمر العقل البشـري بالنظر والتأمل واكتشاف الجديد؛ ولا يقبل الإسلام منه الجمود أو المكوث في مساحة الراحة، خاصة وأننا في عصر التكنولوجيا التي أصبحت كالماء والهواء للناس.
كيف نزيح حالة الفصام التي تظهر أحياناً بين المنابر الإسلامية وواقع الناس؟
– المنبر وسيلة نشر الوعي الديني الصحيح في أذهان الجماهير، وأعترف أن بعض الخطباء يخطئون بتعاملهم مع المنبر كوظيفة مجردة، دون أن ينشغل بالدعوة من صميم روحه وشعوره، ولهذا تخرج خطبهم باهتة لا تصل لقلوب وأفهام المستمعين، على جانب آخر، نرى خطباء يستشعرون أمانة المنبر الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويدركون أنه أداة التغيير والإصلاح للأفضل، وترى خطبهم تلمس هموم المسلمين بحق وتتطرق لقضايا نصرة المستضعفين، وهؤلاء لا نشعر معهم بحالة فصام لأنهم أصحاب رسالة.
كيف تسهم المنابر في النهوض بالأمة حضارياً ومدافعة الاستعمار الغربي؟
– على أمتنا أن تفكر بعقلية مبدعة في صناعة منابر جديدة ورفع الأغلال بخطاب عصري مؤثر من أجل أهداف كبرى: تعزيز الهوية الإسلامية والعزّة بدين الله الواحد مع تأكيد عدم جواز العدوان على الآخر، ثم أهمية الوعي بأخطار الاستعمار الذي تمارسه الدول المعتدية على عالمنا العربي والإسلامي.
ولتحقيق ذلك علينا تحفيز همم الشباب والمبدعين لتحقيق نهضة علمية وفكرية تسهم في حضارة أمتنا، وبث نماذج مشرقة من التاريخ الإسلامي وحياتنا المعاصرة لاستنهاض قيمة الدفاع عن الأمة.
هل يمكن أن تسهم المنابر الإسلامية في مواجهة ظاهرة «التنوير العلماني الزائف»؟
– بداية يجب أن تتوحد جهود المنابر الإسلامية مجتمعة؛ ولا أقول المنابر المسجدية فقط، ولكن المنابر الإعلامية الإسلامية والتابعة لوسائل التواصل الاجتماعي؛ فلا نوجه اللوم إلى المسجد فيما وسائل الإعلام من صحف وبرامج تهيم في أودية أخرى، بينما نرى أهل الباطل يعملون جماعات وهناك دول ومؤسسات كبرى داعمة لهم.
ولمواجهة «التنوير» المزيف، علينا نقد الأفكار العلمانية عبر المنابر بشكل علمي حضاري، مع الاهتمام بالتعليم الديني والأزهري وتربية القادة الشباب على عقيدة وسطية متزنة، وعبادة صحيحة فقهياً، وتعددية مذهبية لا تعرف التعصب، وتربية سلوكية وروحية تعتز بالهوية، مع إيراد مصائر من اختاروا حرمان أنفسهم وأمتهم من الدين.
هل لا تزال مسألة الخطاب المعتدل، بعيداً عن الغلو الفقهي والشطط الصوفي، معضلة مؤرقة؟
– هناك تحديات بالطبع تواجه المنابر الإسلامية المعتدلة كالأزهر الشـريف، غير أنّ حركة الإصلاح الحقيقي ما زالت تعمل بجِدّ في تطوير المناهج التعليمية وتصحيح المفاهيم المغلوطة، التي تتسبّب في نشر التشدّد الفقهي والتسيب الصوفي لدى البعض، مع أنّ المسلم إذا فهم الحكمة من الاختلاف هدأت نفسه وراق فؤاده لعبادة ربه دون أن ينشغل بالمختلف فيه، كما أنّه لو استوعب حقيقة التصوف لعاش في سلوكه وأخلاقه وقيمه كأنه أحد الجيل الذي عاصر نشأة الدعوة ومنهجها الراقي.
لماذا تؤكدون مراراً أهمية الدعوة عبر المنابر التكنولوجية وليس المسجد وحده؟
– بالفعل، فبغير التكنولوجيا المعاصرة ينعدم تأثير الدعوة في حياة البشر اليومية، ونغيب عن فئات بعينها يصعب وصولها لدروس المسجد، ونظل أسرى للخطاب التقليدي، ويغيب الدور الاجتماعي للدعاة في حل مشكلات الناس، وبدون التواصل الحديث يتعذر الوصول بالخطاب الإسلامي للعالمية، ويتعذر على الجاليات المسلمة في مجتمعات الغرب مواجهة تحدياتهم.
وقد شاركت في تدريس مادة «وسائل الدعوة الحديثة» بالأزهر؛ نظراً لكون وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها بشكل احترافيّ ضرورة لكل مسلم، بل وتعلم كل ما له علاقة بالذكاء الصناعي، وهي تطبيقات وفّرت الوقت والجهد والمال والطاقة، ومجتمعاتنا إن طلقت الدنيا الحديثة وتركتها للغرب فإنه سيتزوجها زواجاً أبدياً ويصبح سيداً ونصبح لهم تابعين.
كيف تسهم منابرنا بفاعلية في بث قيم النجاح؟
– نحن دائماً بحاجة لإنتاج محتوى جذاب من مقاطع فيديو، ومقالات، وإنفو جرافيك تشرح القيم الإسلامية المتعلقة بالنظام واحترام الوقت والعمل، نحتاج لأن نستخدم القدوة الحسنة كوسيلة عملية ومعنوية، وأن نبتكر تطبيقات تساعد في تنظيم الوقت وتعزيز قيم العمل والنجاح.
وكي يتحقق ذلك علينا ترسيخ أهمية ترشيد استخدام التكنولوجيا بما لا ما يهدر أعمارنا في إدمان المشاهدة والألعاب وأخبار المشاهير، وعلينا ربط الشباب بقيمة طلب العلم واكتساب المهارات، وأن الإسلام لا يصطدم مع التقدم الحضاري، بل يؤجر صاحبه في الدنيا والآخرة، وقد كان الصحابة والتابعون يطلبون العلم في أصقاع العالم، وعلينا أيضاً تأكيد أهمية الانفتاح على العالم وفق حالة «اندماج لا ذوَبَان».
وكيف يمكن للمنابر أن تُحصّن الشباب من خطر التجنيد لتنظيمات العنف؟
– تفكيك الفكر المتطرف أولاً قبل أيّ شيء؛ لهذا أدعو إلى إنتاج محتوى رقمي متوازن يردّ على الشبهات بلغة علمية بسيطة، وإقامة ورش توعوية تشـرح الفرق بين الفهم الصحيح للإسلام والتفسيرات المغلوطة، واستخدام وسائل التواصل في الحملات الكبرى لمواجهة الشبهات أو في الرد على الاستفسارات بشكل فوري وودّي، ولدينا في جامعة الأزهر أول وحدة للتوعية الفكرية من هذا النوع.
وواجبنا، إضافة لما سبق، تطوير تطبيقات تسهل على الشباب الوصول إلى المصادر الدينية الصحيحة والموثوقة، وتقديم شروحات مبسطة للآيات والأحاديث، مع استضافة علماء مرموقين لتوضيح المفاهيم الصحيحة.
الأمر لا يتوقف هنا؛ بل هناك أهمية لتوجيه طاقات الشباب بعيداً عن التطرف في مشروعات تطوعية اجتماعية، وتعزيز ألعاب تفاعلية وأفلام قصيرة تعزز القيم الإسلامية بشكل مشوق وتبرز تأثيرات التطرف الوخيمة، وأخيراً إتاحة منتديات إلكترونية حول الشبهات المتطرفة ومناقشتها في بيئة آمنة ومفتوحة.
هل نجحت مؤسساتنا الدعوية العالمية في تصحيح المفاهيم المشوّهة عن الإسلام؟
– إن حركة المؤسسات الدعوية العالمية بطيئة للغاية؛ لا تتناسب مع حجم التحديات، ولا تتواكب مع التطورات الحديثة، ولعل العقبة الكؤود التي يلحظها الباحث هي عدم التعاون والتشارك بين تلك المؤسسات بما يوفر الجهود والأعمار.
ولذا، فإنّ المأمول في حركة المؤسسات العالمية إطلاق حملات توعوية عالمية لتصحيح الأفكار المغلوطة سواء التي تطلقها الجماعات المتطرفة، أو تلك التي تطلقها جماعات اليمين الغربي وتعزز ما يُعرف بـ«الإسلاموفوبيا»، وعلينا بث مقابلات مع أبرز الدعاة وتنظيم منتديات دولية تجمع قادة الفكر الإسلامي مع باحثين من ثقافات أخرى لنشر رسالة التسامح، وتقديم تطبيقات وكتب وأفلام بلغات متعددة حول المفاهيم الدينية بعيداً عن التشويه.
وهناك أهمية بالغة للتفاعل مع الجاليات المسلمة في الغرب لتمكينهم من شرح الإسلام الصحيح، مع الاستجابة الفورية للأزمات؛ خاصة في أوقات الهجمات الإرهابية أو تصاعد الأفكار المتطرفة المنسوبة للإسلام.