سمعت رنة خفيضة الصوت تأتي من هاتفي الجوال، عرفت أن ثمة رسالة قد وصلت في هذا الصباح الباكر، قرأت هذه الكلمات على شاشة جوالي: «أخي وليد، قبل شهر ونيف تمكنت من الخروج من بيتنا في حي المهندسين في وسط دوي الرصاص، والحمد لله وصلت دنقلا، وبدأت مشروعاً صغيراً أبيع فيه عصائر الفواكه المثلجة وسندوتشات، ومع اقترب فصل الشتاء سأضيف للمشروع بعض احتياجات الناس في زمهرير شمال السودان البادرة، ركزت في هذا المشروع على جمال العرض والنظافة الواضحة، والأوضاع مستورة والحمد لله».
لا تظنن أن مرسل هذه الرسالة رجل من أغمار الناس، بل هو خريج كلية العلوم الإدارية إحدى أرقى كليات جامعة الخرطوم العريقة، كما هو مدير لأحد أكبر فروع البنوك التجارية بالسودان، ويسكن في حي المهندسين الراقي بأم درمان، ولكنها الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023م قد قلبت حياة السودانيين رأساً على عقب.
وكشف وزير التجارة الفاتح عبدالله يوسف عن تدمير الحرب لنحو 85% من المصانع، كما دمرت الحرب المستمرة منذ عام ونصف العام المناطق الصناعية والأسواق وكل مصادر سبل العيش في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى في وسط البلاد وغربها، ودفعت ملايين السودانيين إلى الفقر واللجوء بعد تعطل أعمالهم وتجارتهم.
قديماً قيل: «رب منحة في محنة»، فقد حولت النخبة المهنية من الوظائف المكتبية الآمنة إلى دخول سوق الأخطار، بمال قليل ونفوس كبيرة، بتجربة محدودة ولكن بذكاء وتجديد، يطلق بعض المحدثين على هذا النمط من النشاط التجاري مصطلح «ريادة الأعمال» (Entrepreneurship).
لم تقتصر محاولات الشباب السودانيين اجتراح طرق جديدة في الحياة على داخل السودان فحسب، بل ظهرت مبادرات كثيرة في الدول التي لجأ إليه السودانيون، كما هي الحال في مصر وأوغندا وإثيوبيا، يشير اللاجئ السوداني أبوبكر محمد إلى بعض الشباب في العاصمة الأوغندية كمبالا أسسوا بعض الأعمال التجارية مثل مراكز بيع اللحوم والخضراوات وغيرها من الاحتياجات اليومية، ورغم أنها مشاريع تقليدية في ظاهرها، فإنها كانت علامة فارقة في أساليب التسويق التجاري في السوق الأوغندية القابعة في التقليدية والبدائية، فظهرت في أول مرة بالأسواق الشعبية بكمبالا ظاهرة عرض الخضراوات على أرفف خشبية متدرجة نظيفة مغطاة بأغطية جميلة مزركشة، بدلاً عن فرشة على الأرض مباشرة، وكذلك الخزانات(الفترينات) الزجاجية المضاءة بالأنوار البيضاء الكاشفة لعرض اللحوم، وكذلك بدأ السودانيون في تأسيس المصانع الصغيرة مثل مصانع ماء الشرب المعقمة كما دخلوا بقوة في الاستيراد والتصدير.
في مصر، حرص الشباب السودانيون اليافعون على تعلم الحرف اليدوية التي يشتهر بها الإخوة المصريون، وكذلك كان للفتيات السودانيين أيضاً نصيب، تقول الناشطة السودانية الشهيرة د. سلمى المصباح: في أيام لطيفة قضيتها في مصر، حظيت بي دعوة من عيادة د. نون للتجميل التي نجحت في تقديري البسيط أن تتجاوز الظرف العام الذي حاصل لنا جميعاً وتتجاوز الحزن والأزمة بالعمل.
تضيف المصباح: المدهش بالنسبة لي ليس كثرة العملاء من البنات، ولكن تواجد والدتها طول الوقت وهي أستاذة ومربية، ما في نجاح مبني على الفراغ، النجاح دائماً قائم على ركائز وأسس، إحدى أهم الركائز هذه هي الأسرة، بل تكاد تكون الركيزة الأولى والأساسية، هي حضانتك الأولى وأول مكان يقدم لك الدعم ويقول لك «برافو»، الحياة يصنعها الأنس، الدعم، والمحبة، يهدمها الكلام المر، والانتقاد الدائم والبعد العاطفي!
كن صاحب عمل.. تكن صاحب وطن
يقول أستاذ الإدارة بالجامعات السودانية البروفيسور فكري كباشي: ريادة الأعمال أعتقد أنها تمثل الحل لمشكلة السودان في التنمية، لذلك أقترح التوجه نحوها، ذلك بأن يقوم الجمهور بحل مشكلاته بنفسه بصناعة مشروع لكل مشكلة أو حاجة، عندما يتجه الشعب نحو ريادة الأعمال سرعان ما يتبنى السياسيون هذه الأفكار، وسوف يشجعون التوجه نحو الإنتاج؛ بالتالي فإن الحل في يد رجال الأعمال الجدد؛ أي ليس رجال الأعمال الحاليين الذين لديهم ارتباطات خارجية قد تعيق حركتهم، وإنما رجال أعمال جدد يؤمنون بالرأسمالية الوطنية.
وفي التاريخ الحديث للسودان لدينا أمثلة لرجال أعمال أفذاذ مثل الشيخ مصطفى الأمين، وخليل عثمان، وإبراهيم طلب الضو ححوج، ومحمد أحمد السلمابي، وبشير السلمابي، الذين في زمن مبكر انتبهوا لتطبيق مفهوم المسؤولية المجتمعية، ومن خلال مشاركتهم في تبني القضايا التي تؤرق المجتمع في تأسيس مؤسسات الخدمات المجانية، وظلت مستمرة إلى اليوم مثل المستشفيات والمدارس ودور العجزة والمسنين، حيث لم يسعوا لتأسيس شركات تحتكر الثروة وتستنزفها، أو يعتمدوا على توكيلات التصدير والاستيراد لمنتجات الشركات الأجنبية الكبرى.
إن الأمل معقود على هؤلاء الشباب الشجعان الذين علمتهم المحنة أن الرزق ليس في المهن المكتبية فقط، بل في سوق الإنتاج، وأن العمل اليدوي والحرفي لا يتعارض مع كون صاحبه صاحب تعليم عال ناله في جامعات السودان أو الخارج.