في سلسلة من التطورات القانونية المهمة، أصدرت المحكمة العليا في الهند حكمين بارزين كان لهما أثر إيجابي في تعزيز الشعور بالأمان والطمأنينة في نفوس المسلمين في الهند.
الحكم الأول يتعلق بالمصادقة على اتفاق آسام لعام 1985م، الذي يعترف بجنسية الآلاف من المقيمين في الولاية، بينما الثاني أوقف تنفيذ إرشادات اللجنة الوطنية لحماية حقوق الطفل (NCPCR) التي كانت تهدد مستقبل المدارس الدينية (المعاهد) الإسلامية.
الحكم الأول: ضمان حقوق المواطنة في آسام:
أصدرت المحكمة العليا بالهند، في 17 أكتوبر 2024م، حكمها بالأغلبية لصالح شرعية اتفاق آسام، مؤكدة أن 25 مارس 1971م هو الموعد النهائي المعتمد لمنح الجنسية، هذا الحكم جلب الطمأنينة للآلاف من سكان آسام الذين عاشوا في قلق دائم من فقدان جنسيتهم.
الحكم لا ينهي فقط المخاوف المتعلقة بفقدان الهوية، بل يعترف أيضًا بأهمية التنوع الثقافي في الهند، كما أوضحت المحكمة أن اتفاق آسام كان حلاً سياسيًا مشروعًا للتعامل مع تدفقات المهاجرين، وأن أي تعديل عليه قد يؤدي إلى زعزعة السلم الاجتماعي في الولاية.
ويعتبر هذا الحكم حكمًا تاريخيًا، كما يُعَدّ نقطة تحول في قضية شائكة طالما أثارت الجدل في ولاية آسام، جاء هذا الحكم ليؤكد دستورية المادة (6A) من قانون الجنسية لعام 1955م، مانحًا الإغاثة التي طال انتظارها لآلاف الأشخاص الذين عاشوا تحت تهديد فقدان جنسيتهم لسنوات.
ما المادة (6A) من قانون الجنسية؟
تمت إضافة المادة (6A) إلى قانون الجنسية لعام 1955م بعد اتفاق آسام لعام 1985م، الذي كان بمثابة تسوية سياسية بين حكومة الهند وقادة حركة آسام، ينص الاتفاق على منح الجنسية لكل من استقر في آسام قبل 25 مارس 1971م، جاءت هذه المادة كحل لموجات الهجرة الضخمة التي شهدتها الولاية من باكستان الشرقية (التي أصبحت لاحقًا بنغلاديش) بعد استقلال الهند في عام 1947م.
كان الاتفاق وسيلة لضمان الاعتراف بهؤلاء المهاجرين كمواطنين هنود، ولكنه تعرض لاحقًا للانتقاد، رأى البعض فيه تساهلًا مع الهجرة غير القانونية؛ ما أثار مخاوف حول التغيير الديموغرافي في آسام.
تحدي المادة (6A) في المحكمة
في عام 2009م، رفعت منظمة «آسام سنميليتا مهاسانغا» دعوى أمام المحكمة العليا، مطالبة بتعديل اتفاق آسام ليقتصر منح الجنسية على من دخل الهند قبل عام 1950م، أسوة ببقية الولايات الهندية، كان تطبيق هذا الشرط يعني حرمان آلاف المهاجرين الذين استقروا بعد ذلك التاريخ من حقوقهم في المواطنة.
أقوال العلماء والقادة
أشاد مولانا محمود أسعد مدني، رئيس جمعية علماء الهند، بهذا الحكم، واصفًا إياه بأنه لحظة تاريخية ستُحدِث تغييرًا إيجابيًا في حياة الملايين، وقال: هذا الحكم يمثل علامة فارقة في نضالنا الطويل من أجل الفئات المضطهدة في آسام، الذين عانوا لسنوات من عدم اليقين بشأن حقوقهم في المواطنة، سنواصل جهودنا لحماية حقوق جميع المجتمعات المهمشة.
كما عبّر مولانا بدر الدين أجمل، رئيس فرع الجمعية في آسام، عن امتنانه لجميع المنظمات والأفراد الذين دعموا القضية، وأضاف: هذا النصر هو نتيجة 15 عامًا من النضال المستمر، وسنواصل العمل لضمان حقوق جميع المواطنين في القضايا المتعلقة بالسجل الوطني للمواطنين (NRC).
الحكم الثاني: وقف إرشادات «NCPCR» لحماية المدارس الدينية:
في قرار آخر لا يقل أهمية، أصدرت المحكمة العليا حكمًا مؤقتًا بوقف إرشادات اللجنة الوطنية لحماية حقوق الطفل (NCPCR) التي كانت تهدف إلى إلغاء الاعتراف بالمدارس الدينية (المعاهد) ونقل الطلاب إلى المدارس الحكومية، جاء هذا القرار في أعقاب توصيات قدمتها اللجنة إلى الولايات باتخاذ إجراءات ضد المدارس الدينية الإسلامية؛ ما أثار مخاوف كبيرة بين المسلمين بشأن مستقبل تعليم أبنائهم.
مولانا محمود مدني أعرب عن ارتياحه لهذا القرار، واصفًا إياه بأنه «نسمة هواء باردة»، لكنه أكد أن النضال لم ينته بعد، مشيرًا إلى أن هناك حاجة لمواصلة الحوار مع الجهات الحكومية لضمان حقوق الطلاب الذين يدرسون في المدارس الدينية، وانتقد مدني موقف رئيس اللجنة، بريانك كانونغو، معتبرًا أن موقفه يعكس توجهًا أحاديًا وغير منصف تجاه التعليم الإسلامي، داعيًا إلى حوار بنّاء لحل الخلافات.
أثر الأحكام على المجتمع المسلم
جاء هذان الحكمان في وقت حساس، حيث كان المسلمون في الهند يشعرون بالقلق إزاء العديد من القضايا المتعلقة بحقوقهم، سواء في مجال المواطنة أو التعليم، وقد أسهمت هذه الأحكام في تعزيز الثقة في النظام القضائي، وأكدت أن القضاء الهندي قادر على حماية حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
الحكم المتعلق بآسام أزال شبح فقدان الجنسية عن الآلاف، بينما القرار المتعلق بالمدارس الدينية أوقف سياسات كان من الممكن أن تضر بنظام التعليم الإسلامي، هذان الحكمان يمثلان رسالة واضحة بأن النظام القضائي يقف إلى جانب العدالة وحماية التنوع الثقافي والديني في البلاد.
وخلاصة القول: إن الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا بشأن اتفاق آسام ووقف إرشادات «NCPCR» تُعد بمثابة انتصار مزدوج يعيد الطمأنينة إلى نفوس المسلمين في الهند، الحكم المتعلق بآسام أنهى سنوات من القلق بشأن المواطنة، وأثبت التزام النظام القضائي بحماية حقوق الأفراد واعترافه بالتنوع الثقافي في البلاد، كما حافظ على السلم الاجتماعي في الولاية ومنح الآلاف الأمل بمستقبل مستقر وآمن.
في المقابل، أوقف الحكم المتعلق بالمدارس الدينية مساعي تقييد التعليم الإسلامي؛ ما يؤكد أهمية التعليم الديني في المجتمع الهندي.
هذه الأحكام تُبرز أن القضاء يبقى حصن العدالة الذي يضمن المساواة للجميع، ويشكل خطوة مهمة نحو تعزيز الثقة بين الدولة والأقليات، ورغم أهمية هذه الانتصارات، فإن الطريق لا يزال طويلًا، ويتطلب مزيدًا من النضال لضمان حقوق كل المواطنين على أساس العدل والإنصاف.