يظن بعض الناس أن المداراة والمداهنة بمعنى واحد، وهو إظهار الود واللطف مع إبطان الكره والبغض، ففي لسان العرب: المداراة هي الملاطفة والملاينة وحسن صحبة الناس واحتمالهم لئلا ينفروا عنك(1)، وفيه أيضاً أن المداهنة هي المصانعة واللين، وقيل: المداهنة هي إظهار خلاف ما يضمر(2)، ففيهما ملاينة وملاطفة على خلاف ما في القلب من كراهية، ولذا أكد البعض أن فاعلهما منافق ولا ينبغي للمسلم أن يكون كذلك.
الفرق بين المداراة والمداهنة
بين المداراة والمداهنة فرق كبير، إذ المداراة مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَالْمُدَاهَنَةُ مُحَرَّمَةٌ، وَالْفَرْقُ بينهما أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ هي مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ فِيهِ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ(3).
ففي المداهنة رضا بالباطل وتملق أهله والثناء عليهم وتزيين فسادهم وضلالهم، وهذا حرام لا يجوز للمسلم أن يفعله، أما المداراة ففيها معاشرة الناس بالحسنى من غير كذب أو تملق أو تزيين للباطل، هي فقط ترك الغلظة والشدة في النهي عن المنكر إذا خيف وقوع ضرر أشد منه أو مساوٍ له، وهذا مباح لا حرج فيه، وقد أمر به الشرع الحنيف.
مشروعية المداراة
إن الإقدام على المدارة نابع من الحرص على اللين في الموعظة والحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بذلك في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)؛ ولهذا نجد أن الداعية الذي وقف على حقيقة الناس وعايشهم يحرص على مداراة بعضهم في كثير من الأحيان.
وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ»، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إليه، فلما انطلق الرجل قالت عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ».
وقد بوّب البخاري لهذا الحديث بقوله: «بابُ المداراة مع الناس»، وقال ابن حجر: «وهذا الحديث أصلٌ في المداراة»، وقال الحسن البصري: «كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كله»(4)، وقال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة»(5)، والمداراة ليست صفة ملازمة للمسلم، إنما يُحتاج إليها في التعامل مع بعض الناس والمواقف والأوقات التي تتطلب المداراة.
أصناف تجب مداراتهم
قال الإمام أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ قال: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ يَقُولُ: «خَمْسَةٌ تَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُمْ: الْمَلِكُ الْمُسَلّطُ، وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ، وَالْمَرِيضُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ»(6).
أولاً: الْمَلِكُ الْمُسَلّطُ:
إذا كان الحاكم متسلطاً على الناس، ظالماً لهم، وكان المسلم غير قادر على مواجهته، أو رأى أن الضرر الحادث من المواجهة أعظم وأخطر من البقاء على الحال الموجودة؛ فإنه يداريه، بمعنى يتلطف في الحديث معه، بقصد تغيير حاله وتحسين معاملته وإصلاح ما يمكن إصلاحه باللطف واللين، وفي ذلك اتقاء لشره وحفظ للدعوة من التأخر أو التعطل.
ثانياً: الْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ:
هو من يحكم حكماً يعتمد فيه على صرف اللفظ إلى غير معناه الظاهر، فالتأويل عند كثير من الفقهاء والأصوليين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.
فقد يعتمد القاضي في حكمه على التأويل لدليل بين يديه أو علة راجحة، وفي هذه الحالة لا ينبغي الخروج عليه أو تخطئته والوقوف في وجهه لأنه خالف الظاهر، بل لا بد من ملاينته وملاطفته حتى يصل طالب الحق إلى معرفة وجهته أو يقنعه بخلاف ما حكم به.
ثالثاً: الْمَرِيضُ:
إن الحالة النفسية للمريض تفرض على مرافقيه أن يحافظوا عليها، وأن يترقبوا تحسنها، ويبحثوا عن الوسائل المؤدية إلى ذلك التحسن، حيث تسهم الحالة النفسية في تحسن الحالة الصحية أو تحقيق الرضا والصبر على البلاء، بل إن بعض المرضى حين تسوء حالته المعنوية تتدهور حالته الصحية فينتكس في علاجه انتكاساً قد يؤدي إلى تفاقم المرض أو الإصابة بأمراض جديدة.
ولذا، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار مريضاً حدّثه عن الشفاء ودعا له به، ففي صحيح البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا دَخَلَ عَلى مَن يَعُودُهُ قَالَ: «لا بَأْسَ، طَهُورٌ إِن شَاء اللَّه».
رابعاً: الْمَرْأَةُ:
أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء، لضعفهن وحاجتهن إلى الملاينة والملاطفة، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلَعٍ، فَإِنْ تُقِمْهَا تَكْسِرْهَا، فدارها تعش بهَا»؛ أي لاينها ولاطفها فبذلك تبلغ مرامك منها من الاستمتاع وحسن العشرة(7).
خامساً: الْعَالِمُ:
إن صفاء ود المعلم وانشراح صدره يدفعه إلى العطاء العلمي والبسط فيه، فعلى المتعلم أن يتقي كل شيء يخرج معلمه عن طوره، من إغضاب، أو استفزاز، أو تهكم، أو عدم اهتمام بالعلم، أو تثقيل على المعلم في أي أمر، وأن يلاينه ويتلطف معه، ويحدثه بما يسرُّه، إلى غير ذلك.
_____________________
(1) لسان العرب: ابن منظور (14/ 255).
(2) المرجع السابق (13/ 162).
(3) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (10/ 528).
(4) كشف الخفا: العجلوني، ص 373.
(5) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني (10/ 528).
(6) الآداب الشرعية: ابن مفلح (3/ 477).
(7) السراج المنير شرح الجامع الصغير (2/ 58).