«الصادق الأمين» صفتان اشتهر بهما النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة المباركة، لفتتا نظر قريش ووصفته بهما دلالة على علو المكانة بسبب تحليه صلى الله عليه وسلم بهما.
والصدق صفة محببة للنفس البشرية المستقيمة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة، ومنزلته بين جملة الأخلاق الإسلامية منزلة عظيمة، يقول ابن القيم في منزلة خلق الصدق: هي منزلةُ القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، مَن لم يسِرْ عليه، فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكانُ الجنان من أهل النيران، وهو سيف اللهِ في أرضه، الذي ما وُضِع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلاً إلا أرداه وصرَعه، مَن صال به لم تردَّ صولتُه، ومن نطق به علَت على الخصوم كلمتُه؛ فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخَل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدِّين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجة تاليةٌ لدرجة النبوة التي هي أرفعُ درجات العالمين(1).
والمتتبع لخلق الصدق في كتاب الله تعالى، يجد أن الله عز وجل شرف الصدق بأنه صفة من صفات الله تعالى، فيقول سبحانه: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 95) وقال عز وجل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) (النساء: 122)، وقال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) (النساء: 87).
والصدق أيضاً من صفات الأنبياء، فكل الأنبياء إنما يبلغون عن ربهم سبحانه، ويصلون رسالة السماء بالأرض، فلا ينطقون عن الهوى، ولا يأتون بشرائع من عندهم يدلسون بها على الناس، وهي من أعظم صفات الرسل.
وقد وصفهم الله عز وجل بتلك الصفة الكريمة وأكرمهم بشهادته سبحانه لهم، فقال تعالى في إبراهيم عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم: 41)، وفي إسماعيل عليه السلام قال عز وجل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 54)، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مرم: 56)، وفي يوسف: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 46).
وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (الصافات: 37)، وقد كان دعاؤه صلى الله عليه وسلم: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء 80).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق بغضاً للكذب حتى في المزاح، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأمزَحُ ولا أقول إلا حقًّا»(2).
وذكر الصدق في كتاب الله كصفة للمؤمنين، فقال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب)، وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15).
ولذلك فقد رغب الله عز وجل في خلق الصدق فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).
ثواب الصادقين
وعد الله الصادقين بأعظم الجزاء في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69)؛ يقول السعدي: الصديقون هم الذين كمُل تصديقُهم بما جاءت به الرسلُ، فعلِموا الحقَّ وصدَّقوه بيقينهم وبالقيام به؛ قولاً وعملاً وحالاً ودعوةً إلى الله(3).
ويقول تعالى في ميقات نفع الصادقين صدقهم: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة: 119)، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).
وعن عبدالله بن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدقَ يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجلَ لَيصدُقُ حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإن الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيكذِبُ حتى يُكتَبَ عند الله كذابًا» (متفق عليه).
صدق القول والعمل
إن الصدق عند الداعي، وعند المسؤول، وعند القائد، وعند المعلم لهو من المسؤولية بمكان، حيث لا يؤثر في مصير صاحب الصدق بمفرده، وإنما يؤثر في مصير أمة بأكملها، وهكذا يجب أن يكون الداعية بين مدعويه، وإلا فلا قيمة لأي قول، ولا لأي قيمة دعوية، ولا لأي خلق يعلمه لمدعويه، إن لم يكن سباقاً إليه، حريصاً على فعله قبلهم.
وليحرص الداعية على ألا يقع في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف)، أو يقع فيمن قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (رواه البخاري).
________________________
(1) مدارج السالكين بين منازل غياك نعبد وإياك نستعين (2/ 24).
(2) المشكاة (4885).
(3) تيسير الرحمن، ص 150.